تاورغاء.. حضارة خمسة آلاف سنة حوّلتها الميليشيات إلى مدينة أشباح

المتشددون خرّبوا كل مقومات الحياة في المدينة الليبية، والعائدون يتهمون حكومة السراج بإهمال مدينتهم الجريحة.
الجمعة 2018/11/23
الحلم بالتحليق نحو عالم آمن

تاورغاء (ليبيا) - عاشت مدينة تاورغاء الواقعة غرب شمال ليبيا وصاحبة خمسة آلاف سنة حضارة، وبسبب اعتبارها محسوبة على نظام معمر القذافي منذ ما يزيد عن أكثر من سبع سنوات على وقع ويلات التهجير والحروب بعدما وقع طرد جميع سكانها الذين تفرقوا في مخيمات بمدن طرابلس وبنغازي وأجدابيا وغيرها من المدن الليبية.

لكن وعلى الرغم من أن التدخلات الأممية برعاية المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة أفضت في نهاية المطاف إلى بداية عودة أهالي تاورغاء إلى مدينتهم، إلا أن المدينة تكاد تكون دمّرت بالكامل، حيث باتت تفتقر إلى أبسط مقومات العيش كالبنية التحتية الأساسية والخدمات العامة بعد أن سويّت أغلب مبانيها مع الأرض وباتت الأنقاض تغطي العديد من الشوارع.

بدأت مشكلة تهجير أهالي المدينة الساحلية تاورغاء منذ سيطرة كتائب مسلحة من مصراتة أو ما يعرف بميليشيا “إخوان مصراتة” المدعومة من قطر على المدينة في 2011، وكان من المفترض أن تنتهي أزمة المدينة منذ مطلع فبراير الماضي.

وقال رئيس المجلس الوطني الانتقالي فايز السراج في نهاية 2018، إن “أهالي تاورغاء سيعودون إلى منازلهم مطلع فبراير”، إلا أن الاتفاق لم ينفذ، وفشلت كل محاولات المصالحة بين أهالي تاورغاء ومصراتة ولم تعقد إلا في شهر يونيو من نفس العام.

وخلال السنوات الماضية التي تلت ثورة فبراير الليبية، استقر قسم كبير من سكان تاورغاء الواقعة في الغرب الليبي في مخيمات عشوائية عند أطراف طرابلس على بعد 240 كيلومترا من مدينتهم، في حين لجأ آخرون إلى مناطق أخرى في البلاد، بعدما أجبرتهم مجموعات مسلحة من مصراتة التي لعبت دورا محوريا في الثورة، على مغادرة مدينتهم.

ويقول المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة عقب زيارته تاورغاء خلال شهر أكتوبر 2018 إن أهالي المدينة المهجرين داخل ليبيا طالبوا الأمم المتحدة بدعم” تسهيل عودتهم الآمنة والكريمة لديارهم”.

غسان سلامة: مدينة تاورغاء تفتقر اليوم إلى جميع المرافق الضرورية للحياة
غسان سلامة: مدينة تاورغاء تفتقر اليوم إلى جميع المرافق الضرورية للحياة

وأضاف “أهالي تاورغاء حثوا البعثة وحكومة الوفاق على وضع خطة واضحة لتقديم الخدمات وإعادة إعمار وبناء المدينة المدمرة التي تفتقر حالياً إلى جميع المرافق من مدارس ومستشفيات وسيارات إسعاف”.

ملـمح المدينة بعد تدميرها يفسرّه الحاج محمود أبوالحبل الذي عاد إلى تاورغاء بعد سبعة أعوام من مغادرتها قسرا، ليجد مزرعته ومنزله مدمرين إلى حد كبير، وهو يحاول منذ أربعة أشهر إعادة الحياة إلى مزروعات قضى حريق على القسم الأكبر منها.

وغادر أبوالحبل (70 عاما) تاورغاء قسرا مع 26 من أفراد أسرته، غداة سقوط الزعيم الليبي السابق معمر القذافي في 2011، حيث كان سكان المدينة متهمين بالبقاء على ولائهم له حتى آخر لحظة.

وعاد أبوالحبل إلى تاورغاء منذ أربعة أشهر إثر دخول اتفاق مصالحة مع الجارة مصراتة حيز التنفيذ، ما أفضى إلى عودة آمنة للسكان الذين كان يتجاوز عددهم 40 ألفا.

تاورغاء الجريحة

يستيقظ الحاج محمود مبكراً كل صباح في مزرعته التي تضم أيضا منزله ومنازل اثنين من أبنائه التي احترقت بالكامل. كما احترقت سيارته الخاصة التي لا تزال مركونة في مكانها. وأول ما يقوم به تشغيل مولد الكهرباء الصغير لتأمين الماء لري أشجار النخيل التي طالتها النيران ويد التخريب.

ويقول أبوالحبل متحسرا “عدت لمزرعتي التي تبلغ مساحتها ثلاثة هكتارات ونصف، وكانت فيها 184 نخلة وجدت معظمها محروقة و150 شجرة رمان و28 زيتونة كلها ميتة، مضيفا أن هذا المشهد يشعره بالحسرة لأنه قام بزراعة كل ذلك بيديه ومن ماله”.

ولا يكل الحاج محمود، رغم سنه المتقدّم من التنقل برشاقة في مزرعته، ليقوم بتحضير الشاي وتجهيز فطوره المتواضع، ثم يجلس على فراش من سعف النخيل، مؤكدا أنه يشعر بالسعادة على الرغم من حجم المأساة.

وبشأن ملف المصالحة الذي عقد منذ شهر يونيو بين مدينتي مصراتة وتاورغاء، يقول محمود “ملف تاورغاء ومصراتة من أصعب الملفات في ليبيا”، مشيرا إلى أن أهالي مصراتة “يعاملون أهالي تاورغاء بطريقة ممتازة ولا أحد يتعرض سبيلهم في الطريق”.

ويتابع “وصلنا إلى أمن وأمان في تاورغاء، يجب أن نكون قدوة لكل الليبيين في المصالحة”.

وأصبحت جميع منازل المدينة إما محترقة وإما مدمرة بالكامل. ويمكن رؤية آثار الركام في كل الأزقة، بينما تجوب الحيوانات السائبة كل شوارعها، إذ لا محال تجارية ولا أسواق ولا مراكز حكومية.

انعدام الحياة

Thumbnail

استقرت خمس عائلات من المدينة بشكل مؤقت في إحدى المدارس، كون منازلها غير صالحة للسكن. وتقول سالمة خليل، وهي أرملة تقطن المدرسة وتعيل بناتها عبر نسج أغراض من ورق شجر النخيل، “لم أكن أعرف هذه المهنة، تعلمتها قبل سنوات بعد انعدام السيولة في المصارف، اضطررت لممارستها”.

وتقوم الأرملة بصناعة سلال وأطباق وحافظات للخبز من ورق شجر النخيل، كما تقوم ببيع الخبز الذي تحضره في تنور الطين الذي قامت بصناعته بشكل بدائي.

وتضيف والدموع تنهمر من عينيها، “عندي بنات يتيمات، تعلمت الصنعة من أجل تأمين احتياجاتهن. كما أقوم بصناعة الخبز لنأكل جزءا منه، وأقوم ببيع الجزء الآخر للحصول على المال الذي أحتاجه بشدة”.

وتطالب سالمة بأن تتم صيانة المدارس حتى يتمكن جميع سكان المدينة من العودة للدراسة، وبفتح عيادة ثانية بالقرب من المدرسة، كون المستشفى الميداني بعيدا جداً، ولا توجد وسيلة نقل إليه.

وترى آمال مفتاح بركة، رئيس مؤسسة “الأسر المنتجة” (غير حكومية)، أن الحكومة تخاذلت بحق أبناء تاورغاء. وتتخذ آمال من أحد الفصول الدراسية التي تحمل آثار قذائف في جدرانها، مقرا لجمعيتها. وتضيف “تخاذلت بحقنا الحكومة، ولم تف بوعودها ولا نعرف أسباب ذلك”.

Thumbnail

ويتخذ المجلس المحلي لتاورغاء مقرا مؤقتاً له في مدرسة أخرى نجت جزئيا من الدمار. ويقول رئيس المجلس عبدالرحمن الشكشاك “الحياة تعود شيئا فشيئا إلى تاورغاء، والكهرباء بدأت تعود تدريجيا، وفتحت مدرسة واحدة وعاد طلابها، وهناك مستشفى ميداني، ونحن في انتظار استكمال إجراءات صيانة مركز صحي يكون بديلاً مؤقتاً للمستشفى العام الذي يحتاج وقتاً” للعودة إلى العمل.

ويقر بأن الحكومة تأخرت في تنفيذ أمور ينص عليها اتفاق المصالحة بين تاورغاء ومصراتة، ولو أن “لها ظروفها الخاصة في تأخر الخدمات”.

ويشير إلى تشكيل خمسة مكاتب لإحصاء و”معالجة أضرار المدنيين”، مضيفا “باشرنا أولا بحصر أضرار ممتلكات أصحاب المحلات ليتمكنوا بسرعة من افتتاح أنشطتهم التجارية التي تحفزهم للعودة إلى تاورغاء”.

وفي طرابلس، يقول وزير الدولة لشؤون النازحين والمهجرين بحكومة الوفاق المدعومة دولياً يوسف جلالة إن ملف تاورغاء كان “من أكثر الملفات إزعاجاً لليبيين والمجتمع الدولي”، مضيفا “اهتم الليبيون والمجتمع الدولي كثيراً بهذا الملف لسنوات”. ويؤكد الحاجة إلى مبالغ ضخمة لإعادة إعمار تاورغاء، وإلى “تكاتف المجتمع الدولي الذي وعد بالمساهمة في إعادة الإعمار”.

7