تاريخهم الأبيض والنظرة الاستعلائية
روبرت يونك مؤلف كتاب “أساطير بيضاء” أستاذ اللغة الإنكليزية والنظرية الأدبية، وحاصل على جائزة الأكاديمية البريطانية عن مشروعه “فكرة العرقية الإنكليزية” يطرح فكرته عن توجهات ما بعد الكولونيالية في القارات الثلاث التي ستواصل إبراز التحديات النشطة في مواجهة تغوّل العولمة، وسوف تجهد لتفكك الأساطير البيضاء التي يديم الغرب وجوده بواسطتها ويواصل تطوير أساليبه لإحكام هيمنته بطرائق متغيرة بين مرحلة وأخرى، وصولا إلى تطبيق العولمة التي تحوّلت إلى غول يلتهم كل شيء.
ويجري نقد النظرة الاستعلائية للغرب من قبل مفكرين ونقاد غربيين متعددي الاتجاهات، ويناقش روبرت يونك في كتابه “أساطير بيضاء” (2003) ضرورة إيجاد نقد معرفي لأعظم أساطير الغرب وهو التاريخ: (حركة نقد الكولونيالية في مواجهة الثقافة الأوروبية تكشف تورط كل منهما بالأخرى) فلا يمكن تخيّل الفكر الأوروبي منذ عصر النهضـة حتى اليوم من دون أثر للكولونيالية.
كما لا يمكن تخيّل تاريخ العالم كله منذ عصر النهضة دون التأثيرات الأوروبية عليه، لقد أكد الكاتب والمناضل من أجل الحرية واستقلال الشعوب فرانز فانون “أن أوروبا هي التي خلقت العالم الثالث” وفانون هو الذي بدأ نقد الكولونيالية مبكرا في كتابه الشهير “معذبو الأرض”، وطرح فيه ما يشبه برنامجا ثوريا لنقض الكولونيالية، وكان الكتاب أحد أناجيل اليسار في الستينيات من القرن الماضي، واقترح تحليل آثار الاستعمار على الشعوب المستعمرة وثقافاتها.
وفي كتابه هذا الذي قرأه الملايين في الشرق وأفريقيا، وضع فانون عالمنا الثالث في مقدمة المشهد ليكون البديل الرئيس للنظام المعاصر القائم على أيديولوجيتين متنافستين هما الاشتراكية والرأسمالية، فيقول في هذا السياق “إن التاريخ الذي يكتبه المستوطن الأوروبي ليس تاريخ البلد الذي يستولي عليه وإنما تاريخ أمته، في ما يتعلق بانتقاءاتها وانتهاكها للآخر وتجويعه”.
وإذا كان البشر هم من يصنعون التاريخ فإن الرجال والنساء -وهم موضوعات ذلك التاريخ- محكوم عليهم بالجمود والصمت، فمن يكتب التاريخ لا يعترف بوجودهم وبأصواتهم وإن أثر الكولونيالية على الشعوب هو بالتحديد نقض إنسانية السكان الأصليين ونفيهم من الواقع.
ولعلها مفارقة ساخرة أن قادة ثورات العالم الثالث الذين استولوا على السلطة بعد المرحلة الكولونيالية استلهموا الكثير من أفكار فانون، ثم انتهوا إلى طغاة أشدّ فتكا بشعوبهم، فأزيحوا من مواقعهم على نحو مهين وأعدم بعضهم، وانزوى الآخرون في ظلال النسيان.
هيلين سكسو الناقدة والكاتبة النسوية الفرنسية التي يدعوها البعض “رسولة الحركات النسوية” تنتقد من موقعها كأهم منظرة نسوية رؤية الغرب للشعوب الأخرى والنساء فتقول عن نشأتها كفتاة يهودية فرنسية في الجزائر: تعلمت كل شيء من ذلك المشهد المبكر، فقد رأيت كيف أقام العالم المتحضر الأبيض (الفرنسي)، الذي يحكمه الأغنياء، أقام سلطته على قمع السكان الذين أصبحوا فجأة “غير مرئيين” كالبروليتاريا والعمال المهاجرين والأقليات التي ليست من اللون الصحيح، فالنساء غير منظور إليهن باعتبارهن بشرا بل ينظر إليهن باعتبارهن أدوات.
ويبدو أن هذه النظرة الكولونيالية التي وصفتها سكسو لا تختلف كثيرا عن نظرة المتشددين للمرأة، فكلا الطرفين ينظران إليها باعتبارها أداة تتسم بالمكر والغباء، ويجعلانها غير مرئية على نحو فعلي بتغطية أجساد النساء ومحو ملامحهن، وتضيف هيلين سكسو: إن الدول المتقدمة “النبيلة والعظيمة” نهضت وأقامت مجدها بطرد ما هو غريب وإبعاده وعملت على استعباده، إنها سمة شائعة من سمات التاريخ فلا بد أن يكون هناك عنصران: سادة وعبيد.
كاتبة من العراق مقيمة في عمان