بيان الجمر والرّماد
لا نلبث أن نغادر بوتقة الاستبداد حتى نقع في أتون الفتنة، ولا نكاد نخرج من جحيم الفتنة حتى نسقط في براثن الاستبداد. هكذا حالنا دواليك منذ يوم السقيفة إلى غاية اليوم. محشورون في الزّاوية الضيقة بين جحيمين، جحيم فتنة شعواء لا تُبقي حجرا على حجر، وجحيم استبداد كاسر لا يترك يابسا ولا أخضر. هو الجدل الجحيمي الباعث على اليأس والضّجر، جدل الفتنة والاستبداد، جدل “السيبة والمخزن” بتعبير أهل المغرب. كنا ومازلنا نتأرجح بين حضيضين عريضين، حضيض العنف وحضيض الخوف.
تاريخنا أزمنة دائرية، أحقاب دورية، حلقات مكرّرة، ومصيرنا محصور بين صلصلة الفتنة وصليل الاستبداد. غير أن فتنة اليوم صارت أفظع وأبشع، يشنّها مقاتلون بلا شهامة، يغدرون، يمكرون، يشمتون، يطعنون الأعزل في الظهر، لا يرحمون طفلا ولا عجوزا ولا مريضا ولا ناسكا ولا مسالما، يتشفون بقتل الأسرى حرقا، أو غرقا، أو صعقا، بالتصوير الاحترافي وبلا مؤثرات صوتية حتى تبدو جلجلة الرّعب أشدّ وقعا على القلب. لم يعد القتل بالرّصاص يشفي غليلهم. ولكَم حذرنا نيتشه ببلاغته المعهودة من ثورات العبيد (هنا العبيد بالمعنى الأخلاقي الإتيقي للكلمة).
وإن كنا نركز النّقد على الفتنة، دون استثناء الاستبداد بالطبع، فلأنّ الفتنة تنشر أجواء الخوف، خوف الجميع من الجميع، وحين يستشري الخوف يبحث الناس عن الأمن في أحضان الاستبداد. الفتنة هي المبدأ والمنشأ، ولا يستمدّ الاستبداد مشروعيته إلاّ من دعوى درأ الفتنة النائمة.
في كل الأحوال فإنّ المعركة لإسقاط لفياثون هوبز يجب أن تكون أيضا وبالأولى معركة إسقاط ذئاب هوبز كلما أوجدتها عوامل الثقافة والتنشئة. والحقّ يقال، كثيرة هي العوامل الثقافية التي تشوّه الإنسان، تفسد الأذهان، تخرّب الأوطان، وتحول الأديان من ملاذ للأمن الرّوحي والسكينة النفسية وطمأنينة القلب، كما يجب أن تكون، إلى منبع لكل الفواجع والمواجع والأهوال.
تاريخنا كان ولا يزال، تاريخ فتنة قائمة دائمة هائمة، فتنة لا تنام، حين تنام، إلاّ تحت رماد تحرسه سياط الاستبداد. تاريخنا تاريخ فتن متواصلة “كقطع الليل المظلم” كما في المتن الحديثي، لا أوّل لها ولا آخر، تحرق اليابس والأخضر، فلا تبقي ولا تذر. بكل تأكيد، ليس هذا قدرنا الوحيد، لكنه عطب قديم وداء مزمن ووجع ملازم. وأما طريق العلاج فلا يزال متعثرا ومحفوفا بالمكابرة والإنكار. تلك هي المسألة، مسألتنا، بإيجاز.
كاتب مغربي