بيار رابحي فيلسوف جزائري - فرنسي نذر حياته للدفاع عن البيئة

ساقته أقدار العزلة والفقر إلى أن تتبناه أسرة فرنسية وتأخذه للعيش معها خارج البيئة والبلدة التي ولد فيها بأعماق الصحراء الجزائرية، لكن الولد الذي عشق الأرض وسلامة الإنسان على وجهها، صار ابن الكرة الأرضية وحيثما حل تصبح تلك البقعة بلدته، لأن المهم بالنسبة إليه صار الارتباط بالأرض رسالة ومغزى وجوهراً للحياة، وليس مجرد علاقة حنين تجمع الإنسان بمسقط رأسه.
يوصف الأيكولوجي والفيلسوف الفرنسي من أصول جزائرية بيار رابحي بعرّاب نظرية “القناعة السعيدة” القائمة على احترام الأرض والدفاع عن التوازن البيئي والطبيعي، ومناهضة آليات الزراعات المكثفة التي تهدد الكوكب بالانفجار نتيجة اهتمامها بتوفير الكمّ على حساب صحة الإنسان والمحيط.

احترام الأرض
مغامرة الطفل
ولد رابحي عام 1938 في بلدة القنادسة بالجنوب الغربي من الجزائر، لعائلة مزارعة فقيرة، قبل أن تتبناه عائلة فرنسية كاثوليكية، وهو لم يبلغ بعد الخامسة من عمره، ومن القنادسة انتقلت العائلة الأوروبية رفقة ابنهما بالتبني إلى مدينة وهران، ثم استقرت نهائيا في فرنسا منذ العام 1954، سنة بداية الثورة التحريرية ضد المستعمر الفرنسي.
وفي الوقت الذي بدأت فيه سواعد دعاة النظام الزراعي المكثف تقوى في فرنسا في ستينات القرن الماضي كان رابحي يربي عنزات ويسعى لتخصيب تربة حديقة بيته الريفي المتواضع بالسماد العضوي، وكان خبراء زراعيون كثيرون يعتبرونه رجلا حالما أو مهووسا بذكريات طفولته الجزائرية في القنادسة، ولكنه ظل دوما حريصا على التعامل مع العمل الزراعي من خلال تعزيز العلاقة بين متطلبات الإنتاج لتلبية الحاجة، ومقتضيات الحفاظ على البيئة والتوازن الطبيعي.
توصّل رابحي بعد قرابة نصف قرن من النضال من أجل الزراعة المستدامة إلى فرض آرائه عبر منطق عملي يقول إن الركض وراء النمو غير المحدود يقود إلى قتل التربة وحرمان الإنسان من السعادة، واتضح أن الرجل لم يكن حالما بل كان يحمل مشروعا إنسانيا يقوم على مبدأ زراعة الأرض لتلبية حاجات الناس بوسائل تحترم معارف المزارعين وكرامتهم ومعارفهم وتحترم البيئة.
استطاع الرجل إنشاء شبكة لترويج أفكاره في أرياف كثير من البلدان العربية والأفريقية وواحاتها بدعم من مؤسسات بحث وتعاون وطنية وإقليمية ودولية.
نظام بيئي صوفي
في كتابه ” تقارب الوعي” يسلّط الضوء على الأسباب الكامنة وراء إخفاق العالم المعاصر، رغم التطوّر التكنولوجي، في التصدّي لمشكلات الفقر عبر العالم، كما يقدم آراءه ومواقفه المعارضة للحداثة بحلتها المعاصرة، والتي يصفها بأنها “حداثة بلا روح”، إضافة إلى دعوته إلى إعادة النظر في لاوعي الإنسان المضمر أو العلني، تجاه قضايا المجتمع، والبيئة تحديدا، وقناعته أن لا سبيل لتغيير المجتمع، دون تشارك في الوعي بالأخطار التي تحدق بالبشرية.
تعلّقُ الإيكولوجي والفيلسوف الذي غادر عالمنا مؤخراً بالأرض والبيئة تجاوز الانتماء الطفولي وحنين السنوات الأولى للحياة، إلى علاقة وثيقة وعميقة تعتبر الكون والإنسان وسيلتا بناء وليسا وسيلة دمار، ويقول في أحد تصريحاته “يسرّني أنّني منحدر من منطقة مباركة واقعة على بوابة الصحراء الجزائرية، التي أنجبت مشايخ وعلماء كبارا. إنها قرية القنادسة المعروفة بالعلامة الصوفي محمد بن عبدالرحمن بن أبي زيان، المعروف بدوره في مساعي التصالح والتسامح والتعايش، فبفضل حكمته أسس زاوية في منطقة القنادسة لتوحيد أفراد مجتمع واحد، إثر صراعات قبلية كانت تشهدها تلك الفترة”.
خبراء زراعيون كثيرون يعتبرون رابحي مجرد حالم مهووس بذكريات طفولته الجزائرية في القنادسة، ولكنه ظل حريصا على التعامل مع العمل الزراعي من خلال تعزيز العلاقة بين متطلبات الإنتاج لتلبية الحاجة، ومقتضيات الحفاظ على البيئة
ويضيف ”رغم رغبتي الشديدة في العودة يومًا إلى قريتي، إلا أنني أحس نفسي في وطني في أيّ بلد أذهب إليه.. ربما هذا أيضا ما يتميز به المتصوفة المعروفون بترحالهم في أصقاع الأرض، ولا يهمهم إلا الخوض في العلم والفكر والمعرفة. فأنا أينما أذهب أحس نفسي في وطني، تحت أيّ أرض أطأ ترابها وتحتضنني سماؤها، وفي كل مكان أذهب إليه ما يهمني هو حماية هذه الأرض التي جعلتُ فيها خليفة مع إخوتي البشر، ألا يقول المتصوف أيضا إن الأرض كلّها هي أرض الله؟”.
وفي تلميح لمناهضته للثورات الصناعية والزراعية في العالم، يذكر بالقول “كان والدي حداداً فقيرا، مارس هذه المهنة لتأمين قوت العائلة، واضطر للعمل بمنجم كبير للفحم الحجري، كغيره من الفلاحين، الذين هجروا أرضهم للالتحاق بتلك المناجم التي أنشئت بعد اكتشاف الفحم في هذه القرية في سنوات الخمسينات، لتصديره إلى أوروبا، عبر سكة حديدية أنشئت لهذا الغرض”.
ويصف حياته في تلك اللحظات بالقول ”يبدو أن الطفل الذي بقي داخلي لا يزال عاتبا على أبيه، وعلى التقدم التكنولوجي الذي دخل قريتنا والذي جعل أبي يترك الحياة التقليدية، ونظم الشعر، وصار يدخل كل مساء شعثا مغبرّا ومُتسِخا من عمله في المنجم.. لقد حصل ذلك تحت ذريعة التقدم، واستنزاف الأراضي، من دون مراعاةِ خصوصية القروي القريب إلى أرضه وعادات أسلافه”.
وإذا كان المشككون بوقوف الإنسان وراء احتدام ظاهرة الاحتباس الحراري قد ازداد عددهم في السنوات الأخيرة، فإن الداعين للعدول عن نظام الإنتاج المكثف بدأوا بدورهم يفرضون آراءهم في مجتمعات البلدان الغربية، لاسيما في ظل الأزمة الحادة التي تعصف اليوم بهذا النظام.
ويأتي على رأس هؤلاء رابحي، الذي يعد عرّاب الزارعة العضوية في فرنسا، وأحد المساهمين الأساسيين في توجه التنمية المستدامة.
ظل رابحي يمثل أحد الوجوه المعروفة في فرنسا عند العائلة الإيكولوجية بالنظر إلى إسهاماته الكبيرة في عالم الزراعة التي تراعي الشروط البيئية، حيث حرص على شرح أبعاد مصطلح “القناعة السعيدة” ودلالاته وأبعاده مستعينا بذلك بتجربته الشخصية والتي ارتبطت أساسا بعلاقته بالطبيعة والأرض، مستنداً دوماً إلى القنادسة باعتبارها نظام حياة تشترك فيه جميع الكائنات لضمان توازن طبيعي وبيئي، فهناك كان للإنسان وللحيوان والنبات نصيب متوازن ومحترم بحكم الأعراف والفلسفة الصوفية، ولذلك بقيت تلك البيئة تمثل بالنسبة إليه منهاجا يهتدي به، ليقنع من حوله من الآخرين بحدود تجربة النظام الزراعي المكثف ومخاطره على البيئة.
بين فضاءين
يعتبر رابحي نقطة التقاء بين فضاءين، عالم الخبراء وعالم الكتّاب، إذ نشر أعمالاً روائية وبيوغرافية، كما أنه يعد أحد أبرز المتخصصين في ميداني البيئة والزراعة.
وكان صاحب كتاب “الإيكولوجيا والروحانيات” قد أشرف عام 1981 على تدشين أول برنامج في ميدان الزراعة الإيكولوجية بوصفها بديلا لا مناص منه، للتخفيف من معاناة الفلاحين، في محاولة للتصدي لحالات الركود الإيكولوجي والاقتصادي، ممثلا في مشكلات الجفاف.

فيلسوف يعشق الأرض
وفي 1960 حين كان يعمل في إحدى المؤسسات الباريسية، بدأ بمراجعة مسألة قيم المنافسة التي أتت بها الحداثة الاقتصادية، وغادر إثر ذلك العاصمة الفرنسية مع زوجته ميشال مفضّلا الاستقرار في منطقة أرداش الريفية، وبعد أن اكتشف الفلاحة البيولوجية والإيكولوجية، طبق هذه المبادئ بنجاح على ضيعته الصغيرة في مجالي الزراعة وتربية الماشية متغلّبا على أرض قاحلة صخريّة، لا يتوفّر فيها الماء ولا الكهرباء ولا حتى طريق معبد، ولكنها تتمتع بمناظر طبيعية خلابة، وربّى في هذه الضّيعة أبناءه الخمسة.
وعن تأثير هذا الانتقال كان يقول ”انطلاقًا من تجربتي الناجحة في ضيعتي الصغيرة في فرنسا، التي كانت قاحلة، ابتكرتُ مفهوم ‘واحة في كل مكان’، وطبقتُ مبادئه في التربة الجافة، والتّربة الصخرية، ثم تحول هذا إلى حركة الواحات في كل مكان، كما شاركت بخبراتي في البلدان الأفريقية التي تعاني من شح في مواردها الفلاحية، ساعيا لتطبيق التجارب التي توصلت إليها لمساعدة شعوب دول العالم الفقيرة لمحاولة تأمين غذائها، وسرعان ما طُبّقت مفاهيمي النظرية في مجالي الزراعة البيولوجية وعلم البيئة، في مجموعة من البلدان الأفريقية، منها بوركينا فاسو ومالي والنيجر”.
كان يدرّب المزارعين على طريقة زراعية يستطيعون من خلالها أن يتوصلوا إلى اكتفاء ذاتي من دون الاعتماد على الأسمدة والمبيدات الكيميائية باهِظة الثمن، ثم التخلص منها لجعلهم في حالة اكتفاء ذاتي تام يعتمد على الطبيعة من غير الرجوع إلى هذه الموارد التي تنتجها شركات بتروكيميائية عالمية، والتي تجني الأرباح الطائلة من جهود المزارعين الذين يساهمون بالتالي في تسميم أراضيهم التي كانت خصبةً في البداية.
ومع نهاية ثمانينات القرن الماضي، أصبح رابحي خبيراً دوليّا في مجال الأمن الغذائي ومكافحة التصحر تحت رعاية الأمم المتحدة، باعتبار هذه الظاهرة تضر بالتّنوّع البيولوجي وتؤثّر في الحياة البشريّة. وبات يشارك بخبراته في البلدان الأفريقية التي تتميّز بشحّ مواردها الفلاحية، في سعي منه لمساعدة شعوب دول العالم الفقيرة لمحاولة تأمين غذائها، وسرعان ما طُبّقت مفاهيمه النظرية في مجالي الزراعة البيولوجية والإيكولوجيا، في مجموعة من البلدان الأفريقية منها على الخصوص: مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
إنقاذ الأرض والإنسان

شارك رابحي في صياغة اتفاقية الأمم المتحدة في مواجهة ظاهرة التصحر، وأنشأ تيّار “الحركة الدولية من أجل الأرض والإنسانيّة” الذي أطلق عليه لاحقا اسم “حركة الطيور الطنانة“. كما ساهم في اختراع الكثير من الأجهزة المفيدة للمزارعين والفلاحين كما نشط في محاربة التصحر وتحسين الطرق الزراعية والزراعة العضوية والبيولوجية، وله العديد من المؤلفات والرسائل والبحوث الجامعية والتقارير وهو عضو في الكثير من مراكز ومعاهد البحث.
وبسبب انغماسه في مختلف ميادين البيئة والزراعة والكتابة، أطلق الوسط الثقافي الفرنسي على رابحي أوصافا عدّة، قلّما تجتمع في شخص واحد؛ فهو الكاتب والمفكر والخبير والمزارع والمخترع، كما أن يوجد من يطلق عليه لقب الفيلسوف.
ظل رابحي، صاحب حضور قوي في مختلف وسائل الإعلام السمعية والبصرية الفرنسية، كما عرفت محاضراته وندواته إقبالا واسعا، في جميع المدن الفرنسية وبعض البلدان الفرانكوفونية للاستفادة من خبراته في ميداني الزراعة والبيئة، والاستمتاع بما تجود به قريحته في ميادين تخصصه وفي مختلف مجالات الحياة. وقبل سنوات أنجِز حوله عمل وثائقي بعنوان “باسم الأرض”، استعرض مراحل طفولته، وهويّته المشتتة، وصولاً إلى مساهماته العلمية.
ورغم الشهرة الواسعة التي اكتسبها رابحي، كمفكر و”فلاح عالَمي“ صديق للبيئة، بقي ملتزما بروح التواضع والدعابة، حين يقول إنه يرى نفسه قبل كل شيء “شاعر الأرض”، أمضي جل حياتي أتأملها في أبهى حالاتها.
لكن يبدو أن القدر لم يحالفه في آخر عمره، فقد همس يوماً ”أُحب أن أقول إنني شاعر الأرض، أتأملها وأعمل على ترويضها. ربما ما يقربني من قريتي هو تعلقي بالأرض، وبالبساطة، والبحث عن جوهر الحياة في البساطة، وتأمّل المتصوّف للمعجزات التي يزخر بها كوكبنا، لقد أصبحت فلاحاً مسنّاً الآن، وأتمنى أن يُحالفني الحظّ والصحة كي أعود يوما إلى قريتي، وأن أُنفِذ برامج زراعية في الجزائر، كما فعلت في تونس والمغرب وفلسطين وبلدان أفريقية كثيرة”.