بناء مساجد بكلفة باهظة في مصر لا يتناسب مع أزمتها الاقتصادية

عكست تصريحات وزير الأوقاف المصري مختار جمعة أخيرا، عن إنفاق عشرة مليارات جنيه على بناء المساجد، مدى التمسك بالسير عكس اتجاه احتياجات الشارع، علاوة على غموض عمل الحكومة في ترتيب الأولويات والتركيز على ملفات بعيدة عن المعاناة الاقتصادية.
القاهرة - أثار امتعاضَ البعض أن خطط الحكومة المصرية للتوسع في بناء دور العبادة، المسلمة والمسيحية، تتزامن مع أزمة اقتصادية وارتفاع كبير في معدلات الفقر ونقص حاد في أعداد المدارس والمستشفيات ومناشدة وسائل الإعلام التبرع للبسطاء.
وقد تعامل وزير الأوقاف المصري مختار جمعة مع الإنفاق على بناء المساجد كإنجاز كبير بتأكيده أن وزارته حققت أرقاما قياسية في معدلات المساجد الجديدة، وتم إنشاء وتجديد وصيانة 9600 مسجد خلال فترة حكم الرئيس عبدالفتاح السيسي، بينها 1200 مسجد في العام الجاري فقط.
وانضمت المساجد إلى قطاعات أخرى تبرهن على وجود خلل في أولويات الحكومة، مثل التوسع في شبكات الطرق والكباري ومدن الجيل الرابع، رغم أنها تشارك المواطنين في الشكوى من شح الموارد والعجز المالي وتدني المستوى المعيشي.
وأثارت مبررات الأوقاف عن التوسع في المساجد استياء شعبيا بعدما أُعلن أن الإقبال عليها في عهد الرئيس السيسي غير مسبوق، وهي حُجة تلقفها معارضون للسخرية من وزارة الأوقاف، لأنها تحاول ربط التدين بالرئيس السيسي الذي يرفض هذه النغمة.
ويرى متابعون أن الأغلبية المسلمة ليست ضد بناء المساجد أو تخصيص مبالغ مالية لتطويرها، لكن من غير المنطقي تخصيص مبالغ طائلة للإنفاق على قطاع لن ينتشل البلاد من أزماتها المعيشية لمجرد الظهور بأن الحكومة ليست ضد الدين.
ويشير هؤلاء المتابعون إلى أن التوسع في المساجد ليس إنجازا للحكومة كما يسوّق وزير الأوقاف لأن ذلك يندرج تحت بند المتاجرة بالدين لتحقيق مآرب سياسية، فالفقراء يتوقون إلى توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة ولو أدوا صلواتهم في الشوارع.
وقال الكاتب المصري خالد منتصر “لا يُعقل أن يتم في بلد يحتاج إلى ثلاثة أضعاف ميزانية الصحة، ونفس المبلغ للتعليم وبناء المدارس، صرف كل ذلك على بناء المساجد. لسنا ضد بناء المساجد، لكن الدولة التي فيها مهبط الرسالة، وهي السعودية، كل مدينة فيها عدد محدد من المساجد ويمكن أن تكون هذه الأعداد في قرية مصرية”.
وأضاف لـ”العرب” أن هناك مبالغة في التسابق بين الناس -خاصة في الريف- على من يبني مسجدا أكبر، وهؤلاء عندما تطلب منهم تبرعات للوحدة الصحية أو مقاعد للطلاب في المدرسة لا يتبرعون، إنها شيزوفرينيا يعاني منها من لديهم إفراط في إفراز “هرمون الشكليات الدينية”، ولا يمكن لبلد يقترض أن تكون ميزانية المؤسسة الدينية فيه أكثر من 20 مليار جنيه (حوالي 900 مليون دولار).
وتدير وزارة الأوقاف في مصر 150 ألف مسجد، مقابل 3 آلاف مستشفى و56 ألف مدرسة، ما يعكس وجود فجوة بين رؤى الحكومة ومطالب الناس الذين لا يتوقفون عن توجيه اللوم إليها جراء تدني الخدمات التعليمية والطبية، خاصة في المناطق الفقيرة.
وسبق أن أبدى الرئيس المصري استياءه من مطالبة الناس بضرورة التوسع في بناء مدارس جديدة، داعيا الرأي العام إلى مشاركة الدولة في تحدياتها الاقتصادية، وهي تصريحات استدعيت مع إعلان وزير الأوقاف تخصيص مبالغ كبيرة وسط تساؤلات عن جدوى فقه الأولويات.
الأوقاف المصرية تدير 150 ألف مسجد، مقابل 56 ألف مدرسة، ما يعكس فجوة بين رؤى الحكومة والمواطنين
ويصعب فصل التوسع في بناء المساجد عن محاولة الحكومة الدفاع عن نفسها بأنها عندما قصقصت أجنحة الإسلام السياسي لم تكن بذلك تحارب الدين، وهي النغمة التي سوّق لها الإخوان والسلفيون، لذلك تصر على الإنفاق لبناء وتطوير دور العبادة.
والحكومة غير مطالبة بإنشاء الآلاف من المساجد كل عام كي تدحض الاتهامات التي تطالها بأنها ضد كل ما هو إسلامي، لأنها سوف تظل تضع نفسها في موقف ضعف طالما عجزت عن تبرير مواقفها السابقة والحالية في التصدي للمتشددين.
وتسعى الحكومة من وراء التخمة الموجودة في أعداد المساجد إلى استمالة الأغلبية المسلمة المتدينة بالفطرة، لكنها لن تستطيع تجييش الشارع خلفها، إذا ركزت على الخدمة الدينية وأهملت خدمات دنيوية أكثر أولوية.
وأكد سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة، أن الحاصل من وزارة الأوقاف يعكس استهتار الحكومة بالأزمة الاقتصادية طالما تتمسك بوضع مبالغ ضخمة في ملفات لا تدر دخلا، ولا أحد في مصر (مسلمًا كان أو مسيحيا) ضد بناء المساجد أو الكنائس، لكن الكل يقول أين فقه الأولويات؟
وأوضح لـ”العرب” أن “الهوس الديني يقود إلى تخريب العقول، ومن المفترض أن تكون وزارة الأوقاف قدوة في ترشيد الإنفاق ورسم الخطوط الصحيحة، لكنها تتعامل مع عدد المساجد وكأنه انتصار سياسي، وأصبحت سببا في التدين الظاهري في المجتمع، وهذا توجه خطير يتطلب وقفة صارمة”.
ويبرر الرافضون لهذا التوجه وجهات نظرهم بإخفاق أجهزة الدولة في تكريس مدنية المجتمع، ونجاحها في تثبيت التدين الظاهري عبر إنشاء مساجد بأعداد لا يحتاجها الناس، والتعاطي مع الدين بعقلية سلفية واختزال الثواب في دور العبادة.
ومن يتابع نظرة المصريين لأفضل أعمال الخير يجدهم يركزون على التبرع لبناء مسجد، بدفع مبالغ مالية أو تخصيص قطعة أرض، ولا يكررون الفعل الخيري عندما تكون المنطقة بحاجة إلى مستشفى أو مدرسة بعدما زرع السلفيون فكرة أن بناء المسجد يقود إلى الجنة.
ويقول مركز الأزهر العالمي للفتوى إنه لو كانت هناك مصلحة عامة، مثل مستوصف أو مكتب بريد أو مساعدة فقير، وفي البلدة مسجد واحد، فالأولوية أن تنشأ المصلحة العامة لأنها مقدمة دائما على الخاصة، وهناك مصالح أهم من المساجد بكثير.