بلاغة الإيجاز

كان الجاحظ يصف العرب بأنهم “أمة صافية الذهن، دقيقة الحس، سريعة الفهم”. لذا فإن الإنسان العربي “تكفيه الإشارة، وتغنيه اللمحة”. أما غير العربي فـ”يحتاج إلى الإطالة وإشباع القول”.
الجمعة 2019/02/08
الإنسان العربي "تكفيه الإشارة، وتغنيه اللمحة" (لوحة: ياسر صافي)

في “ديكاميرون”، وهي واحدة من روائع الأدب العالمي، يروي المؤلف بوكاتشو أن امرأة تدعى السيدة أوريتّا أدت زيارة إلى سيدة أخرى تقيم في ريف فلورنسا. وبعد الغداء، طلبت تلك السيدة أن تقوم بفسحة للتمتع بجمال الطبيعة.

وفي الطريق اقترح عليها الفارس الذي رافقها، أن يروي لها حكاية من “أجمل حكايات العالم”. مبتهجا بقبول السيدة أوريتا لذلك، شرع الفارس المشهور بالثرثرة في رواية حكايته مكررا نفس الكلمة أو نفس العبارة أو نفس الجملة أكثر من مرة. وأحيانا يعود إلى بداية الحكاية قائلا بأنه لم يوفق في التعبير، لذا يتحتم عليه أن يروي الحكاية من جديد بأسلوب أفضل.

وبسبب الضجر الذي أثقل عليها حتى أنها أحست بأنها على وشك أن تموت اختناقا، قالت السيدة أوريتا للفارس الثرثار “أيها الفارس، حصانك أرهقني بقفزاته العنيفة غير المنتظمة… لذا أبتغي أن أنزل لكي أستريح”.

والحقيقة أن السيدة أوريتا لم تضق بالحصان بل بإسهال الفارس في رواية حكايته، وعجزه عن الإيجاز الموحي والمثير للفضول والاهتمام. وهو ما اختصت به شهرزاد التي تمكنت من إنقاذ نفسها من موت محقق بفضل طريقتها العجيبة في رواية الحكايات.

وأجمل ما في تلك الطريقة أنها، أي شهرزاد، كانت تتقن التوقف في اللحظة المناسبة، وفي الموقف المناسب لكي يظل الملك شهريار متشوقا للاستماع إلى بقية الحكاية.

وكان الكاتب الإيطالي جياكومو ليوباردي يقول بأن ميله للبلاغة الموجزة يعود إلى أن هذه البلاغة توفر للروح مجموعة من الأفكار الفورية المتدفقة بسرعة تجعلها تسبح في فضاء بديع من الصور والأحاسيس والمشاعر الرائعة. لذلك فإن أفضل الأساليب بالنسبة لليوباردي هو الأسلوب الذي يعتمد السرعة والإيجاز موفرا المتعة للقارئ  أو للمستمع.

ويوافقه إيطالو كالفينو على ذلك قائلا بأن اختيار السرعة والدقة في رواية قصة يعني بالدرجة الأولى “القدرة على حرية الحركة، وعلى حرية  الانطلاق”. وكان الفرنسي فلوبير يقول بأن “عظمة الله تكمن في التفاصيل الصغيرة”. لذلك كان يمضي ساعات طويلة مجهدا نفسه لكي يعثر على الكلمة المناسبة، ولكي ينحت الجملة التي لا زيادة فيها ولا نقصان.

وكان الجاحظ من أشد الكتاب العرب القدماء تمسكا بالبلاغة الموجزة. وكان يقول بأن الكلام لا يستحق البلاغة الموجزة إلاّ إذا ما “سابق معناه لفظه ولفظه معناه فلا يكون لفظه إلى سمعك سبق في معناه إلى قلبك”. وكان يرى أن البلاغة “لمحة دالة. لذا يتوجب على الكاتب إن كان يبتغي الدقة أن يجوّع اللفظ ويشبع المعنى”. 

وكان الجاحظ يصف العرب بأنهم “أمة صافية الذهن، دقيقة الحس، سريعة الفهم”. لذا فإن الإنسان العربي “تكفيه الإشارة، وتغنيه اللمحة”. أما غير العربي فـ”يحتاج إلى الإطالة وإشباع القول”.

ولكن لو عاد الجاحظ إلى الحياة لأدرك في الحين أن وصفه للعرب خاطئ،  ومجانب للواقع والحقيقة. فالعرب اليوم هم من أكثر الأمم احتياجا للإطالة وإشباع القول. وهم “ظاهرة صوتية” بحسب ما وصفهم المفكر السعودي عبدالله القصيمي. وميلهم للهذر والثرثرة الموجعة للرأس والقلب جعلهم ينصرفون عن الخوض في ما ينفعهم ويفيدهم ويعنيهم لينشغلوا بما هو تافه وسخيف ومضر بل قاتل. يكفينا أن نحضر الملتقيات والندوات سواء كانت سياسية أم فكرية أم أدبية أم دينية أم غيرها لكي نقف مصدومين ومُروّعين أمام هذه الحقائق المرة.

14