بغداد تفتح نافذة التسامح بترميم تراث يهودها

ممثّلون عن الطائفة اليهودية العراقية يعملون منذ أسابيع على ترميم مرقد الحاخام إسحاق جاؤون، بعد عقود من الإهمال والتخريب.
الخميس 2025/05/29
إشراقة جديدة لتراث قديم

في قلب بغداد ينبعث الأمل من بين حجارة مرقد حاخام منسي هو إسحاق جاؤون، وذلك مع انطلاقة مشروع ترميم يقوده أبناء الطائفة اليهودية كمؤشر على مستقبل من التسامح والاعتراف بجذور العراق المتنوعة عبر التاريخ.

بغداد- في أحد أحياء بغداد النابضة بالحياة، ينهمك عمّال في ترميم مرقد حاخام من القرن السابع، في مسعى جديد لأبناء الطائفة اليهودية لإحياء تراثهم الذي تلاشى على مرّ العقود.

ويعمل ممثّلون عن الطائفة اليهودية العراقية منذ أسابيع على ترميم مرقد الحاخام إسحاق جاؤون، بعد عقود من الإهمال والتخريب وهجرة اليهود في بلدٍ متعدد الطوائف.

وكانت الجالية اليهودية في العراق واحدة من أكبر الجاليات اليهودية في الشرق الأوسط، غير أن عدد أعضائها تقلّص اليوم إلى العشرات فقط، غالبيتهم في إقليم كردستان، ولا يجاهرون بدينهم.

وتقول رئيسة الطائفة اليهودية في العراق خالدة إلياهو، التي بقيت في البلاد، إن هذا المرقد “كان مكبًّا للنفايات، ولم يكن بإمكاننا إعادة إعماره”. لكن، وبفضل الضوء الأخضر من السلطات، تمكّنت إلياهو من بدء عمليات الترميم، التي ستتولّى الجالية اليهودية تغطية تكاليفها.

وتؤكد السيدة الستينية “يشكّل هذا المرقد تراثًا ليس فقط لنا كطائفة، بل لكلّ العراق”. وتضيف “كان اليهود وبعض المسلمين يزورون مرقد الحاخام إسحاق جاؤون، إذ كانوا يؤمنون بقدرته على شفاء المرضى”.

pp

وقد أُضيفت قرب بوابة المرقد الجديدة، زرقاء اللون، لوحات مرمرية سوداء كُتب عليها بالعبرية “تبارك دخولك” و”الله الواحد”، إلى جانب أسماء بعض تلامذة الحاخام وأصدقاء الطائفة على قطع خشبية.

وكان موقع المرقد يضمّ كنيسًا ومدرسة دينية، لكن لم يبقَ منه اليوم سوى قاعة المرقد والقبر، الذي كُتب عليه أنه توفي عام 688 ميلادية.

ويشير سيمشا غروس، الأستاذ في جامعة بنسلفانيا الأميركية، إلى قلّة المعلومات المتوفرة حول تاريخ هذا الحاخام وشخصيته، لكنه يوضح أن لقب “جاؤون” يشير إلى أنه كان رئيسًا لإحدى الأكاديميات العريقة التي كانت تُدرّس الحاخامات وتُجيب عن استفسارات المؤمنين حول التوراة.

ويقول غروس “حتى أحكامه الدينية لم تصل إلينا، لكن هناك نص يعود إلى القرن العاشر، كتبه حاخام آخر، يروي كيف رحّب إسحاق جاؤون، على رأس 90 ألف يهودي، بالإمام علي، صهر النبي محمد والخليفة الرابع، بعد فتح مدينة في وسط العراق”.

ويؤكد غروس “ليس لدينا أيّ دليل آخر بشأن هذا الحدث، وهناك أسباب تدعو إلى الشك”. ويشرح الخبير في التاريخ اليهودي القديم أن هذه “الأسطورة” ظهرت في فترة انتشرت فيها روايات خلال القرنين التاسع والعاشر، تتحدث عن ترحيب الأقليات من مسيحيين وأرمن وزرادشتيين ويهود بفتوحات المسلمين، موضحًا أن ذلك “كان يسمح لهم بالحصول على امتيازات، وخصوصًا في مسائل الضرائب”.

أما وجود الضريح في بغداد، فيظهر بحسب غروس في كتابات تعود إلى القرن التاسع عشر.

لكن، اعتبارًا من القرن العاشر، “ظهرت أعداد متزايدة من الأضرحة اليهودية في العراق،” ويبدو أن المجتمع اليهودي في البلاد “قلّد أو استلهم من الأضرحة الإسلامية التي بُنيت في الوقت نفسه”.

ويقول أحد المهندسين المشرفين على أعمال إعادة إعمار المرقد، طالبًا عدم الكشف عن هويته “كان المرقد في حالة مزرية، واستغرقت أعمال التنظيف نحو شهرين”.

ويضيف “تصلنا طلبات من خارج العراق من أشخاص يرغبون في زيارة الموقع،” ومن المتوقع أن تنتهي أعمال الترميم خلال شهرين.

pp

وتعود جذور يهود العراق إلى 2600 سنة، إلا أن عشرات الآلاف منهم غادروا البلاد في السنوات التي أعقبت ما عُرف بمجزرة “الفرهود” في  حزيران 1941، والتي قُتل خلالها أكثر من مئة يهودي، إثر هجوم جموع على منازلهم ونهبها.

ولم يبقَ اليوم في العراق سوى نحو 50 معبدًا وموقعًا يهوديًا، تنتشر معظمها في بغداد والحلّة، مركز محافظة بابل، التي اقتيد إليها عدد كبير من اليهود قسرًا خلال ما عُرف بـ”السبي البابلي” في القرن السادس قبل الميلاد.

وتعاني هذه المواقع من إهمال كبير، بحسب رئيسة الطائفة، وقد حُوّلت إلى مخازن على يد مجموعات مسلّحة ومخرّبين.

وفي حيّ البتاوين بشرق بغداد، الذي كان يسكنه الكثير من اليهود، لا يزال كنيس واحد صامدًا، بينما تنتشر في المدينة منازل تراثية مهجورة تعود أحيانًا إلى أبناء الطائفة الذين غادروا البلاد على مرّ العقود.

ويقول وزير العدل السابق سالار عبدالستار إن الوزارة “نجحت في استعادة بعض العقارات التي هجرها اليهود، ووضع تعليمات وتدابير ولجان خاصة لمنع استغلال هذه الأملاك أو التصرف بها”.

ويوجه دعوة ليهود العراق في الشتات ممّن “يمتلكون عقارات أن يعودوا إلى البلاد لاستكمال الإجراءات القانونية”.

ويذكر موسى حياوي، المقيم قرب موقع المرقد منذ ولادته قبل 64 عامًا، كيف كانت “نساء يعانين العقم يأتين إلى المرقد، ويسبحن في بئر ماء كان هنا، ثم يحدث لديهنّ حمل”.

ويقول الموظف السابق في دائرة الطائفة اليهودية العراقية “كان الناس يزورون المرقد، يشعلون الشموع، ويتبرّكون به، ويطلبون الشفاء لمرضاهم أو الرزق بطفل، أو إطلاق سراح سجنائهم”.

oo

18