بعد 60 عاما على اتفاقيات إيفيان: علاقات فرنسية - جزائرية أسيرة لعُقد الماضي

السلطة الجزائرية تستمد شرعيتها من حرب انتهت منذ 60 سنة.
الثلاثاء 2022/02/22
الجزائر لم تقطع مع حرب الاستقلال

تستعد فرنسا والجزائر لإحياء ذكرى توقيع اتفاقيات إيفيان التي مهدت لاستقلال الجزائر في ما بعد، لكن العلاقات الفرنسية – الجزائرية متقلبة اليوم بسبب العُقد التي يشكو منها البلدان؛ ففي الجزائر لا تزال السلطة تستمد شرعيتها من حرب التحرير رغم مرور 60 عاما على هذه الحرب، وفي فرنسا يبقى الاعتذار عن الاستعمار -رغم الجهود التي بذلها الرئيس إيمانويل ماكرون لتنقية الذاكرة- صعبا خاصة وأن هذا الموضوع الحساس بات سلاحا بيد القوميين المتطرفين.

باريس – مع اقتراب إحياء ذكرى توقيع اتفاقيات إيفيان التي تصادف الثامن عشر من مارس تعود إلى الواجهة التساؤلات عن أفق العلاقات الجزائرية – الفرنسية التي تبدو أسيرة لعقد الماضي في الظاهر لكن في الباطن لا يستطيع أي من البلدين التخلي عن الآخر.

وبعد مرور ستين عاما على انتهاء حرب التحرير في الجزائر يبقى التقلب السمة الأبرز التي تميز العلاقات بين باريس والجزائر على وقع صخب الذاكرة التي تغذي فصولها في بعض الأحيان رهانات سياسية داخلية في كلا البلدين.

عُقَد الجزائر

نوفل إبراهيمي الميلي: العلاقة جيدة عندما تكون سرية وتصبح صدامية في العلن

رغم التعاون الذي يجمعها بفرنسا إلا أن الجزائر لا تكف عن توجيه انتقادات حادة لفرنسا في خطوة تعكس العقد التي تعاني منها الجزائر في علاقتها بالمستعمرة القديمة.

وتبدو السلطة الجزائرية -رغم التغيرات التي طرأت على المشهد الداخلي على غرار الحراك الشعبي الذي أطاح بالرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة- تستمد شرعيتها من حرب انتهت منذ ستين عاما، وفي نفس الوقت لا تبدي أي تعاون مع جهود المصالحة.

ويقول الباحث في شؤون دول المغرب لوي مارتينيز من معهد الدراسات السياسية في باريس “بشكل عام، وعلى الرغم من المظاهر والانتقادات، كانت العلاقة ثابتة ومتوازنة، بالنظر إلى الوضع الاستعماري وما بعد الاستعمار”.

وفي الثامن عشر من مارس 1962 تم التوقيع في إيفيان بفرنسا على اتفاق وقف إطلاق النار الذي مهّد لاستقلال الجزائر.

وقامت علاقة جيدة بين القادة الجزائريين الجدد آنذاك والجنرال شارل ديغول الذي كان يحظى باحترام لديهم لأنه فتح الطريق أمام وضع حد لاستعمار بلاده للجزائر. واستمرت كذلك مع خلفه جورج بومبيدو، ثم مع فرنسوا ميتران، رغم أن هذا الأخير كان وزير داخلية في بداية الانتفاضة الجزائرية عام 1954.

ويقول أستاذ التاريخ في جامعة السوربون بيار فيرمران “كان ميتران محاطا بأشخاص من الحزب الاشتراكي مؤيدين كلهم لجبهة التحرير الوطني”، رأس الحربة في معركة تحرير الجزائر، و”عرف كيف يقدّم نفسه على أنه رجل العلاقات المميزة مع هذا البلد”.

ماكرون قدّم مبادرات لتنقية الذاكرة بين البلدين وسعى لتحقيق المصالحة بين الشعبين، لكن الخطوة ينقصها اعتذار عن الاستعمار، فالموضوع حساس في فرنسا وبات سلاحا بيد القوميين المتطرفين

وبعد استقلال الجزائر سُمح لفرنسا بأن تواصل تجاربها النووية في الصحراء الجزائرية حتى العام 1967. ونفّذ الجيش الفرنسي تجارب كيمياوية سرّا حتى العام 1978.

وفي 1992 ندّد فرنسوا ميتران بتعليق العملية الانتخابية في الجزائر بعد فوز الإسلاميين في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية، فردّت الجزائر باستدعاء سفيرها للتشاور.

وبعد انتهاء العشرية السوداء للحرب الأهلية في الجزائر في العام 2000 اختار الرئيس الجزائري الجديد آنذاك عبدالعزيز بوتفليقة، رغم أنه كان قريبا من فرنسا، اعتماد خطاب مناهض لها علنا.

ويقول فيرمران “تناسوا مساعدة فرنسا لهم في محاربة الإسلاميين، بهدف استعادة الميدان العقائدي والسياسي بعد الحرب الأهلية، وعادوا إلى عدوهم التقليدي”.

وطوّرت المنظمة الوطنية للمجاهدين (محاربي حرب التحرير) ومنظرو النظام خطابا أكثر حدة حول “الإبادة” الفرنسية خلال الاستعمار.

ولكن بعيدا عن الخطاب الرسمي وبعيدا عن الأضواء يتواصل التعاون بين البلدين؛ ففي 2013 أعطت الجزائر موافقتها سرّا على تحليق الطائرات العسكرية الفرنسية -التي كانت تخوض حربا ضد الجهاديين في مالي- فوق أراضيها.

ويقول نوفل إبراهيمي الميلي -واضع كتاب “فرنسا والجزائر خمسون عاما من القصص السرية”، الذي ستصدر منه قريبا نسخة محدثة (“ستون عاما”)- “العلاقات الفرنسية – الجزائرية جيدة عندما تكون سرية، وتصبح صدامية في العلن”.

عُقَد فرنسا

ماكرون

على الطرف المقابل تقف فرنسا المستعمرة القديمة التي حاولت خلال فترة حكم الرئيس المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون تحقيق اختراقات هامة في ملف الذاكرة إلا أن الجزائر لا تبدي تعاوناً يسهّل ذلك.

وبعد انتخابه قدم ماكرون سلسلة من المبادرات لتنقية الذاكرة بين البلدين وسعى لتحقيق المصالحة بين الشعبين، لكن تلك المبادرات ينقصها اعتذار عن الاستعمار، وهي الخطوة التي تنقص فرنسا وقد لا يقدم عليها أي رئيس، وهنا تبرز عُقد باريس.

فالموضوع حساس للغاية في فرنسا وبات سلاحا بيد القوميين المتطرفين الذين يجد خطابهم في هذا الصدد المزيد من الآذان الصاغية.

وفي سبتمبر 2021 ذهب ماكرون إلى أبعد من رفض الاعتذار عندما شن هجوما حاداً على السلطة الجزائرية معتبرا أن “النظام السياسي العسكري” في الجزائر يقوم على ريع الذاكرة، وأشار إلى أن “الأمة الجزائرية” لم تكن موجودة قبل الاستعمار عام 1830، في خطوة قلصت فرص التهدئة بين البلدين. وردّت الجزائر باستدعاء سفيرها.

ورغم ذلك عاد الهدوء إلى العلاقات هذه الأيام قبل أسابيع من الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقرر تنظيمها في أبريل المقبل والتي من المقرر أن يدعم فيها الجزائريون ماكرون. 

وسيشارك في هذا الاستحقاق سبعة ملايين من الفرنسيين الذين غادروا الجزائر بعد الاستقلال والجزائريين الذين هاجروا إلى فرنسا والحركيين (المقاتلين الجزائريين الذين حاربوا إلى جانب الجيش الفرنسي) والمحاربين الفرنسيين القدامى الذين قاتلوا في الجزائر، أو المتحدرين منها.

ويقول الميلي “الجزائر ستصوّت لماكرون. الجزائريون مقتنعون بأن ماكرون في ولاية ثانية سيكون أكثر إقداما”.

ويقول السفير الفرنسي سابقا في الجزائر كزافييه درينكور، واضع كتاب “المعضلة الجزائرية” (بالفرنسية)، “لا يريدون فاليري بيكريس وخطابها اليميني، ولا يريدون بالتأكيد (إريك) زمور أو مارين لوبن” مرشحَي اليمين المتطرف.

رغم ذلك لا يزال العمل المطلوب كبيرا. فاليد الممدودة من جانب ماكرون على صعيد العمل على تنقية الذاكرة لم يقابل بالمثل من الجانب الجزائري.

وأصبحت الصين الشريك التجاري الأول للجزائر التي اقتربت أيضا من تركيا وطوّرت شراكتها العسكرية مع روسيا.

ويقول مارتينيز “العلاقة الفرنسية – الجزائرية تعود إلى الانطلاق من نقطة الصفر. كل شيء يعود إلى الطاولة، وهناك محاولة لتحديد الأمور التي يمكن الاتفاق عليها”.

ويبدو درينكور أكثر تشكيكا، إذ يقول “لا بدّ من أن نكون اثنين لبناء علاقة”، ويبدي عدم تفاؤله بشأن تجاوب فرنسا مع جهود تنقية الأجواء بعد الانتخابات الفرنسية.

6