"بعد النهاية".. مسرحية تسبر أعماق جيل تائه

المسرحية تركز على ما تتّسم به هذه المرحلة من قلق وخوف ومفازع سببها العنف والعنصرية والإرهاب ومخاطر كارثة نووية وما يلقاه شباب اليوم من ضياع وتيه بسبب تآكل القيم.
الاثنين 2020/08/31
حاوية ضخمة تتحوّل إلى فضاء مسرحي

أمام تواصل التباعد الاجتماعي في الفضاء العام، لا يزال رجال المسرح في فرنسا يجتهدون في ابتكار وسائل جديدة للتواصل مع جمهورهم. وبعد البث عبر الإنترنت، والأداء من إحدى الشرفات، حوّل أنطونان شالون حاوية ضخمة إلى خشبة لعرض مسرحيته “بعد النهاية”.

"بعد النهاية" مسرحية لدينّيس كيلّي وهو ممثل ومؤلف مسرحي وسيناريست بريطاني (مولود عام 1969 في إحدى ضواحي لندن) حاز شهرته عن السيتكوم “بولينغ” (سَحْب) الذي أعده لـ”البي. بي. سي” وسيناريو فيلم “البحر الأسود”، إلى جانب مؤلفاته الدرامية أمثال “الذبح الطقوسي لدى جورج ماستروماس” و”الحب والمال” و”الأشياء التي لا معنى لها”، إضافة إلى هذه المسرحية التي ترجمها إلى الفرنسية أوليفيي فرنر بمساعدة بيرل مانيفولد.

ولمّا كانت أحداث المسرحية تدور في “بونْكر”، فقد حوّل المخرج الفرنسي أنطونان شالون حاوية ضخمة، أقامها في ساحة فيزينسكي بالدائرة الرابعة عشرة من العاصمة الفرنسية، إلى فضاء مسرحي يتحرّك على خشبته البطلان لويز ومارك، وذلك بأن جعل أحد جانبي الحاوية مفتوحا تماما على طوله، وكأنها شاشة تلفزيون ضخمة معروضة أمام جماهير حرص المنظمون على ترتيب مقاعدهم بشكل يُراعي الشروط الصحية، فهي تتابع المشهد من خارج هذا “المسرح” المرتجل.

تركز المسرحية على ما تتّسم به هذه المرحلة من قلق وخوف ومفازع سببها العنف والعنصرية والإرهاب ومخاطر كارثة نووية قد تُبيد العالم بمن فيه ومن عليه، وما يلقاه شباب اليوم من ضياع وتيه، بسبب تآكل القيم، واستشراء العنف والميز العنصري ومعاداة الأجانب وحضور الميديا بشكل مهيمن، فهي صورة لجيل شاب فقد البوصلة، وبات يعيش تناقضات لا حصر لها. تلك المخاوف هي الخلفية التي تتحرّك فيها أحداث مسرحية خلف أبواب مغلقة، حيث شاب انطوائي، وفتاة قال إنه أنقذها.

في هذا الفضاء المغلق تنفلت المشاعر والمخاوف من عقالها وتتصارع ثم تخلد إلى السكينة فلا ندري ما الواقع وما الحقيقة؟

وسط فضاء مغلق تنفلت المخاوف من عقالها وتتصارع ثم تخلد إلى السكينة فلا ندري ما الواقع وما الحقيقة 

بطلا المسرحية شابٌّ وفتاة يواجهان بعضهما بعضا في زمن غير محدّد وفضاء مغلق، يخيّم عليه التوتر والانفعال والخوف من واقع منفلت ومستقبل غامض.

استفاقت لويز في ملجأ تحت الأرض أعدّ للوقاية من الإشعاعات الذرية خلال الثمانينات، حيث مؤن مكدّسة، وسريران متراكبان، ومرافق محدودة، ومناخ يوحي بالعبوس والتوتر، ولم تعد تتذكر ما جرى.

نسيت كل شيء، فأخبرها مارك بأنه وجدها ملقاة على الأرض عند مغادرته الحانة على عجل، عقب هجوم بالأسلحة النووية قام به إرهابيون، فجاء بها إلى هذا البونْكر المحفور في ناحية من حديقة بيته، حيث يوجدان الآن في حَجْر يُقَسَّط فيه كل شيء، حتى الهواء الذي يتنفّسانه، ولا يفكّران في مغادرته خوفا من الإشعاعات النووية.

في فضاء مغلق، وعزلة لا تنبئ بما يجري خارجه، وجوّ خانق ينذر بالموت البطيء، تستفيق الغرائز من مضاجعها، وتعود موازين القوى بين الذكر والأنثى إلى الأصول البدائية، فتتبدّى الرغبة، والصراع على احتلال المواقع، وسلطة الجلاد على ضحيته، ما يوحي بأن الخطر لا يأتي من الخارج، بقدر ما ينشأ في دواخلنا.

وقد حرص شالون على تسليط الضوء على هشاشة الشخصيتين، والتأني في وصف ما يعتمل داخلهما وصفا دقيقا مفعما بروح إنسانية عميقة. وبسخريته السوداوية المعهودة، يتناول كيلّي آليات الخوف الذي يولّده الذّهان في نفوس البشر، حيث يهيمن صراع غرائز الحياة والموت ورغبة الإذلال السادي وحيل التملّك الخبيثة على سلوكيات المجتمع.

الحدود بين الوهم والواقع
الحدود بين الوهم والواقع

تكمن أهمية المسرحية في مساميّة الحدود بين الوهم والواقع، والتنافذ بين ما يُراد الإيهام به وما هو في حقيقته على أرض الواقع، وبين ما يُعرَض على الأنظار فتكتفي منه بالظاهر وما يبقى خفيّا لا يُرى.

هنا كائنان يقفان وجها لوجه، ويواجِه كلٌّ منهما صاحبه كما هو بمخياله وجسده وكلماته وصمته. والكاتب لا يستقرّ على وضعية تكرّس مهيمِنا على مهيمَن عليه، ولا يجعل الغلبة لطرف على آخر، بل يتلاعب بالوضعيات بين الفينة والفينة، بشكل مدروس، فيعكس موازين القوى من شخصية إلى أخرى، حيث يجعل كلا منهما حريصا على قدح زناد الفكر لاستنباط شتى الحلول بغية تحقيق البقاء، فقد تغدو الضحية جلادا، وقد يصبح الجلاّد ضحية بدوره.

وهكذا تُفلت السيطرةُ من يدَي هذا ثم ذاك بالتناوب، دون أن يغفل المؤلف عن بث نوع من المقاطع الهزلية الساخرة لتبديد سحب الكآبة، أو خلق مواضع وقف وصمت يراجع فيها كل طرف نفسه ومواقفه وأقواله وأفكاره، قبل أن يستأنف الصراع، لأجل تحقيق غاية، لا تتعدّى في عمومها إرادة فرض الذات على الآخر، ولو كان من نفس النوع، ونفس العرق.

عندما عرضت المسرحية أول مرة في لندن خلال صيف 2005، أي عقب الأعمال الإرهابية التي ضربت العاصمة البريطانية، قال دينّيس كيلّي في حديث صحافي إنها تتحدّث عن سلوكياتنا، وتؤكّد على أن “تغيير المجتمع نُحدِثه نحن لا الإرهابيون، فهم لا يستطيعون أن يجعلوا منا وحوشا بل نحن”. فالتوهّم يخلق الوهم، والواقع يتشظّى حدّ التلاشي، والكذب يغدو رسالة تلتبس بما يمكن تصديقه.

16