بصرة النخيل تستورد التمر من الجيران

على طول شط العرب الفاصل بين العراق وإيران، صار النخيل رمادا، ويمتد مشهد الأرض القاحلة على طول العشرات من الكيلومترات، لا تغزوه إلا بعض الأمواج الخفيفة من بحر العرب.
السبت 2018/09/29
باهظ على عامة الناس

البصرة (العراق) – لا تخلو مائدة عراقية من ثمار التمر الذي يعد فخرا في أحد أكثر البلدان حرا في العالم، لكنّ “النخل ذي السعفات الطوال” الذي كان دائما ملجأ العراقيين للفيء ومعشوق الشعراء في الغزل، يواجه اليوم حتفه.

وفي محافظة البصرة بأقصى الجنوب العراقي، كان النخل “سيّد الشجر المقتنى” كما يصفه الشاعر محمد مهدي الجواهري في إحدى قصائده، مصدرا أساسيا للتجارة ودعم الموانئ وتنشيط الزراعة.

لكن الحروب المتتالية كانت مصدر إبادة الشجرة السامقة، بحسب ما يتذكر سالم حسين ذو الأعوام الـ66 الذي قضى 40 منها في بيع التمر، داخل بلد كان عدد النخل فيه يفوق عدد السكان.

 

العراق كان قبل سنوات واحة نخيل ويعد أحد أكبر الدول المنتجة للتمور في العالم، وكانت البصرة حتى أواخر السبعينات تعتمد في جانب من اقتصادها على زراعة النخيل وتصدير التمور، لكن الحروب دمّرت جانبا من الواحات المتسعة وزادت الأمراض وتكاليف رعاية النخلة من عزوف الفلاحين عن زراعتها، وما أطاح بشجرة النخيل شجع المستثمرين على الإعمار، لتتحول بصرة النخيل إلى أرض جرداء.

وعلى طول شط العرب الفاصل بين العراق وإيران، صار النخيل رمادا، ويمتد مشهد الأرض القاحلة على طول العشرات من الكيلومترات، لا تغزوه إلا بعض الأمواج الخفيفة من بحر العرب.

في “بلد الثلاثين مليون نخلة”، كان حسين يحلم ببساتين نخيل عملاقة لا يحدها 450 نوعا انحصرت بالعراق آنذاك.

ويقول حسين، الذي يرتدي جلابية زرقاء وقبعة بيضاء تسمّى “عرقجين” تبرز سمار وجهه، “كنا نفكر في تطوير ومضاعفة عدد أشجار النخيل، لكن على العكس انخفض عددها” إلى النصف رسميا. ويضيف “كنا نأمل في الأفضل بالمستقبل، لكن حصلنا على الأسوأ”.

وتحت رحمة الحروب المتعاقبة والهجرة الريفية التي ضاعفت عدد سكان المدن وحولت الأراضي الزراعية إلى أحياء عشوائية، تضاءل عدد أشجار النخيل وتحولت قنوات الري إلى مجار مفتوحة، والحزام الأخضر الذي كان كفيلا بالحد من ارتفاع درجات الحرارة، ذاب كثلج تحت شمس. ووسط بستانه المقفر، إلا من الخشب وخلايا النخيل الجافة والمهجورة لعدم وجود الماء، يتحدث رائد الجبيلي عن مأساة المزارعين بين الجفاف والتلوث الذي تسببه المنشآت النفطية.

ويلخص الجبيلي الوضع بعملية حسابية صغيرة، قائلا إن “شراء نخلة يكلف حوالي 250 دولارا. تكاليف الحفاظ عليها تبلغ 12 دولارا في الموسم الواحد، فيما لا يمكن بيع الكيلوغرامات الأربعة التي تثمرها بأكثر من 3.5 دولارات”.

وفي المقابل، يشير إلى أن “تراث الأجداد” كان له عزّه في المنطقة، إذ “لا شيء يرمى من النخل (..) فالتمر فيه السكر ويعطي الطاقة للإنسان، والسعفات التي تظلل، تصبح مكانس في ما بعد، والخشب يذهب للأثاث”.

وفي الحقبة الذهبية، كان التمر العراقي يصدر إلى الولايات المتحدة واليابان والهند، بحسب ما يؤكد سالم حسين في متجره حيث يتدفق سنويا 250 طنا من التمور المحلية، ونحو 50 طنا يتم تحويلها إلى خل وغيره من العصائر.

وفي البصرة، على غرار مناطق أخرى في العراق، “التمر ضروري وقت الغداء، ولتناول الوجبات الخفيفة بين الوجبات الرئيسية”، وفق مهدي (68 عاما)، الذي جاء وزوجته ليلى لشراء كيلوغرام من التمر، الذي سيلتهمانه خلال يومين أو ثلاثة أيام، كما يقولان.

وتقول ليلى، إنها لا تشتري إلا “تمر البصرة، لأنه ملك التمور”، لكن دفع خمسة آلاف دينار عراقي، أي أكثر بقليل من أربعة دولارات للكيلوغرام الواحد، مصروف لا يمكن للعائلات تحمله في بلد يعاني من البطالة والفقر.

ولإرضاء زبائنه من ذوي الدخل المحدود، وجد عقيل عنتوش حلا ببيع التمور الإيرانية والسعودية والإماراتية والكويتية.

ويشير عنتوش إلى أن المزارعين العراقيين الذين خنقهم الجفاف، زادوا من أسعار “التمر الذي تقلص حجمه بسبب قلة المياه”، مضيفا أنه “في المقابل، فإن السعوديين الذين ينتجون كميات صغيرة، يرغبون ببيع منتجهم ويخفضون الأسعار إلى 1500 دينار للكيلوغرام الواحد”.

ويلفت هذا التاجر البالغ من العمر 52 عاما، والذي يمتلك متجرا في شارع الجزائر بوسط البصرة منذ 25 عاما، إلى أن صدام حسين، الرئيس الراحل، “لم يكن يسمح للتمور الأجنبية بدخول العراق”.

وفي عهد النظام السابق، وحين كانت البلاد تحت الحصار، يتذكر مهدي الجانب، الذي كانت لديه أشجار نخيل في حديقته، كيف “كنا نذهب إلى دائرة الزراعة حاملين نخلة مريضة، وكانت تفحص كإنسان يذهب إلى الطبيب”.

أما اليوم، فقد جرف النخل كرما لعيون الصناعة النفطية، مصدر الدخل الأول للدولة العراقية. وبذلك ترك الإنتاج الوطني الساحة أمام الاستيراد.

وتباع قطع الأراضي للمتعهدين الذين يدفعون المبلغ الأعلى، أو لأفراد راغبين في البناء بمبالغ تفوق مداخيل التمر.

وفي الآونة الأخيرة، تداول عراقيون مقاطع فيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي تظهر جرافات تقتلع المئات من أشجار النخيل بالقرب من حقل نفط غرب القرنة، متهمين في ذلك شركة نفط البصرة التي قررت إيقاف تجريف أراض زراعية تقع شمال المحافظة.

وسارعت شركة نفط البصرة إلى التأكيد في بيان لها، أن “المنطقة المذكورة تقع ضمن خطة مشغل الحقل لإنشاء مجمع الآبار رقم 3، لذا خضعت هذه الأراضي إلى إجراءات لجان التعويض، وأمضى مالكو الأرض على تعهد خطي بإزالة المغروسات والبناءات وإخلاء الأرض خلال مدة أقصاها 15 يوما من تاريخ استلام مبالغ التعويض، كما أن مبالغ التعويض الخاصة بهذه الأراضي جاءت وفق ضوابط وزارة الزراعة”.

ويعد قضاء  القرنة من الأقضية الكبيرة التي كانت تنتج أنواعا مختلفة من التمور، لكنها لم تكن كما كانت في السابق وتعرضت إلى القلع والتدمير جراء الحروب والسرقة وأعمال البيع من قبل البعض بعد عام 2003.

ومن سخرية القدر أن غالبية تلك التمور المستوردة من الخارج، هي ثمار جذوع زرعت في الخليج بعد شرائها قبل عقود مضت من العراق!

17