بريكست ليس مأزق بريطانيا الوحيد في المرحلة المقبلة

فيما تتخوف أوروبا مما قد يحمله خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من تداعيات سلبية تهدد وحدة النادي الأوروبي، فإن منابر بريطانيا بدأت تحذر بجدية مما قد يحمله نصر المحافظين ونجاح البريكست من تهديد للوحدة البريطانية، خصوصا وأن الانتصار الساحق للمحافظين ترافق مع ظاهرة أخرى تتمثل في ارتفاع أسهم القوى القومية في أيرلندا الشمالية واسكتلندا.
لندن- للمرة الأولى منذ انفصال أيرلندا عام 1918 يتخوف البريطانيون مما تحمله بذور الانتخابات التشريعية الأخيرة من أعراض قد تؤدي إلى تفكك المملكة المتحدة. فالنتائج التي خرجت بها صناديق الاقتراع في الانتخابات المبكرة، في 12 ديسمبر 2019، رفعت تمثيل الأيرلنديين القوميين على حساب أولئك الوحدويين المتمسكين بالروابط مع لندن، كما منحت الحزب القومي الاسكتلندي انتصارا كاسحا أتاح لرئيسة الوزراء في اسكتلندا نيكولا ستورجيون تكرار المطالبة باستفتاء للانفصال عن بريطانيا.
ويسلط مايك نيسبيت، الزعيم السابق لحزب الستر الوحدوي في أيرلندا الشمالية، الضوء على مفارقة كبرى بقوله “إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو أكبر هدف للوحدويين، غير أن نتيجة هذه الانتخابات قد تؤسس لنهاية المملكة المتحدة”.
ولأول مرة في التاريخ، لا يحتل الوحدويون أغلبية المقاعد الـ18 لأيرلندا الشمالية في مجلس العموم البريطاني. فقد نال الحزب الديمقراطي الوحدوي 8 مقاعد مقابل 10 مقاعد فازت بها الأحزاب القومية، وأشهرها حزب شين فين.
تشهد المملكة المتحدة ارتفاعا في أعداد الكاثوليك الذين يشكلون البيئة الحاضنة للحركات الداعية إلى الانفصال عن العرش البريطاني على مر التاريخ، مقابل تضاؤل أعداد البروتستانت المتمسكين بالوحدة مع بريطانيا.
ديموغرافيا متغيرة
تكشف الديمغرافيا أن الغالبية العظمى من المتقاعدين هم من البروتستانت، وغالبية تلاميذ المدارس هم من الكاثوليك. وتخلص توقعات الديموغرافية إلى أن توازن أعداد الطائفتين سينتهي عام 2021. وهنا يجدر التذكير بأن اتفاق الجمعة العظيمة الذي أنهى الحرب الأهلية ينص على إمكانية الوحدة مع الجمهورية الأيرلندية إذا ما أيدت الغالبية ذلك.
والمشهد في اسكتلندا أكثر سخونة، حيث باتت نيكولا ستورجون، زعيمة الحزب القومي الاسكتلندي، تملك شرعية واسعة لرفع الصوت للمطالبة بالانفصال عن التاج البريطاني. وفاز حزبها بـ48 مقعدا من أصل 59. وحظي بـ45 بالمئة من مجمل أصوات الاسكتلنديين، بما يجدد تفويض ستورجون وحزبها بمقارعة لندن والمطالبة باستفتاء جديد. فالوحدة يجب أن تكون خيارا لا جبرا، وفق تصريحات الزعيمة القومية.
وقد لا تذهب أيرلندا إلى خيار الانفصال الفوري فذلك دونه تاريخ دموي من الحرب الأهلية التي لا يريدها أحد أن تطل من جديد. وكان الحزب الديمقراطي الوحدوي متمتعا خلال السنوات الأخيرة بقدرته على تعطيل أي اتفاقات دولية تطول أيرلندا الشمالية عبر حق الفيتو، وهو في نفس الوقت كان ينتظر من لندن ومن رئيس الوزراء هناك، لاسيما في عهد تيريزا ماي، المزيد من الامتيازات لمنح المحافظين تحالفا يتيح حكم البلاد. الآن لم يعد بوريس جونسون يحتاج إلى هذا النوع من الابتزاز.
التخوف الأيرلندي يكمن في هذا الاتفاق الذي أبرمه جونسون مع الاتحاد الأوروبي. الأغلبية التي فاز بها زعيم المحافظين في الانتخابات الأخيرة تجعل من تمرير الاتفاق عبر مجلس العموم البريطاني تفصيلا. الاتفاق سيفرض نقاط تفتيش بين بريطانيا وأيرلندا الشمالية إذا ما اختارت الأولى عدم الالتزام بالمعايير الأوروبية، ونقاط التفتيش ستكون إجبارية إذا ما أريد منع وجود حدود بين الأيرلنديتين.
اتفاقية خيانة
سبق للوحدويين المتطرفين في أيرلندا الشمالية أن وصفوا صفقة جونسون مع الاتحاد الأوروبي بأنها “اتفاقية خيانة”. ووفق ما حققه الحزب الديمقراطي الوحدوي فإنه قد يميل إلى إعادة إحياء مجلس الحكم الذي انهار عام 2017. وقد يجد الوحدويون في الشين فين شريكا محليا.
الانتصار التاريخي لحزب المحافظين منذ ذلك الذي تحقق بزعامة مارغريت ثاتشر عام 1987 قد حسم مسألة البريكست وحقق حلم بوريس جونسون بإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وبدا أن داخل ذلك الانتصار تصويتا يائسا قد تم التعبير عنه لدى الحاضنات العمالية التاريخية في شمال إنكلترا وميدلند وويلز، وهو تصويت يريد إخراج البلد من حالة الشلل التي أصيبت بها منذ الاستفتاء على بريكست عام 2016. بيد أن الخروج من أوروبا سيضع بريطانيا في مواجهة نفسها.
والظاهر أيضا أن فوز جونسون الساحق قد كشف سريعا عن الوجه الآخر لقرار الخروج من الاتحاد البريطاني. وسبق أن تم التحذير من أن انفصال بريطانيا عن أوروبا سيشرع الباب أمام احتمالات انفصال عن التاج البريطاني نقسه.
وفق ما حققه الحزب الديمقراطي الوحدوي فإنه قد يميل إلى إعادة إحياء مجلس الحكم الذي انهار عام 2017. وقد يجد الوحدويون في حزب شين فين شريكا محليا
تطالب اسكتلندا منذ عقود بذلك دون أن تنجح الاستفتاءات بتمرير ذلك. وها هي المشكلة الأيرلندية تطل برأسها من جديد متجاوزة ما حققته اتفاقية الجمعة العظيمة عام 1998 ملوحة بأن حقائق الديموغرافيا قد تفرض قواعدها بحيث لا يعود وجود أيرلندا الشمالية داخل المملكة المتحدة قدرا لا بديل عنه.
ويسلط المراقبون المجهر على انكشاف بريطانيا المقبل أمام استحقاقات داخلية لطالما كانت مؤجلة بسبب الاشتغال الداخلي على قطبية البقاء والخروج من أوروبا. ويعتبر هؤلاء أن أمام البلد مرحلة انتقالية صعبة ستحدد وجهة لندن صوب البقاء داخل الحيز الأوروبي من خلال اتفاقات جديدة مع الاتحاد الأوروبي، أو القطع مع أوروبا والذهاب باتجاه خيارات أطلسية تربط البلد بالولايات المتحدة.
ويخلص هؤلاء إلى أن نزوع اسكتلندا نحو خيار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والانفصال عن المملكة المتحدة، وارتفاع نسب من يتطلع في أيرلندا الشمالية إلى الالتحاق بالجمهورية الأيرلندية العضو في الاتحاد الأوروبي، يعني أن طلاق بريطانيا عن أوروبا قد يفجر داخل بريطانيا نفسها تيارا أوروبيا يصدع البنيان الوحدوي لبريطانيا.