بريطانيا تنفض يديها من جماعات الإسلام السياسي: احتضنتكم ولم آمن شركم

لم تعد مسألة التهديدات الإرهابية مسألة جدال سياسي عادي أو صاخب، بين مختلف القوى السياسية في بريطانيا، بل تحولت إلى مسألة ذات أهمية قصوى تفرض على حكومة ديفيد كاميرون، المُحافظة، البدء باتخاذ حزمة من الإجراءات على مدى السنوات الخمس المقبلة للحدّ من مخاطر هذه التهديدات التي لم يعد المجتمع البريطاني المعروف بتنوعه وتعدده الثقافي والديني والإثني بمعزل عنها.
ويبدو من خلال قراءة موضوعية للخطاب السياسي الذي ألقاه رئيس الوزراء البريطاني كاميرون، يوم الاثنين الماضي في مدينة بيرمنغهام، أنّ الحكومة البريطانية قد قرّرت الانطلاق في اعتماد حزمة من السياسات الحازمة والأكثر شمولية تجاه مختلف التيارات الإسلامية المتطرفة، التي تدفع مختلف مكونات المجتمع البريطاني إلى أشكال متنوعة من الصدام الأيديولوجي والسياسي من خلال نشر أفكار التطرف، في ظلّ عدم محاصرتها بشكل جدي من قبل مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع.
لعل أولى المؤشرات على التحول في تصورات الحكومة البريطانية تجاه ظاهرة التطرف والراديكالية العنيفة، والتي يمكن اعتبارها تأسيسية في هذا المجال؛ قيام الحكومة خلال السنة الماضية بإعادة تقويم سياساتها تجاه حركات الإسلام السياسي التي وجدت سابقا في مرونة القوانين البريطانية وقيم التسامح التي تميز المجتمع أرضية خصبة لتوسيع نشاطاتها في مختلف المجالات وتحقيق خطوات كبيرة عن طريق تجنيد الشباب البريطاني المسلم في صفوفها انطلاقا من الأدوار التي تلعبها في بعض المدارس من خلال برامجها الخاصة التي تشيع ثقافة التطرف والكراهية والإقصاء، تلك الجماعات التي لم تأمن بريطانيا شرها رغم احتضانها لها.
وقد اعتبرت الطبقة السياسية البريطانية، بمختلف توجهاتها الفكرية والسياسية، أنّ النتائج التي تم التوصل إليها عبر التحريات والدراسات التي قامت بها اللجان المختصة في هذا المجال، تعدّ بمثابة ناقوس الخطر في ما يتعلق بالتهديدات المحدقة بالأمن والاستقرار في البلاد جراء الانتشار السريع للأفكار المتطرفة في سياق الأحداث العنيفة المتواصلة في منطقة الشرق الأوسط وخاصة في سوريا والعراق اللذين تحولا، خلال السنوات الأخيرة، إلى قوتي جذب واستقطاب للشباب البريطاني الواقع تحت إغراءات التنظيمات المتطرفة وجحافل الوسطاء، الذين لم يدّخروا جهدا في العمل على استقطاب الشباب وجذبه إلى دائرة التطرّف، ضمن استراتيجيات معادية للحرية وقيم الحضارة الحديثة والتعايش السلمي بين مكونات المجتمعات والشعوب المختلفة.
كاميرون يعتبر أن نقل المعركة مع التطرف إلى أرضية إسلامية صرفة، قد يؤدي إلى نتائج إيجابية ناجعة
ويأتي خطاب رئيس الوزراء البريطاني كاميرون في ظل هذا المناخ العام، وخاصة بعد الحصيلة المرتفعة للضحايا البريطانيين الذين قتلوا في الهجوم الإرهابي الذي شهدته إحدى المدن الساحلية التونسية، والذي دفع العديد من مراقبين إلى توقّع اتّخاذ الحكومة البريطانية لخطوات لافتة في اتجاه التضييق على التنظيمات المتطرفة ومحاصرتها، وخاصة في الأوساط الإسلامية الراديكالية.
ويمكن اعتبار خطاب كاميرون حدثا مفصليا هاما في تاريخ تعامل بريطانيا مع تيارات الإسلام السياسي والتوجهات التي تعتبرها الحكومة متعصّبة ومتطرّفة على المستويات الأيديولوجية والسياسية والعملية، والتي أصبحت تهدد الأمن الداخلي للبلاد، بعد الخبرة التي اكتسبها عدد من أعضائها في مناطق التوتر والنزاعات المسلحة وخاصّة في العراق وسوريا. وهذا ما يفسّر تركيز الخطاب على محاولة تفكيك أيديولوجيا التطرف التي تبثّها التنظيمات المتشددة وعلى رأسها تنظيم داعش الذي ينشر قيم التوحش والهمجية والقتل ويساهم بقدر كبير في غسل أدمغة الشباب وتحويلهم إلى أدوات للقتل والإرهاب ووقود للحروب.
ومن الواضح أن كاميرون الذي اختار استخدام لهجة حادة في مواجهة أيديولوجيا التطرف كان حريصا أيضا، على إبراز أنّه عندما يهاجم التيارات الإسلامية المتطرفة فإنه لا يقصد بذلك مهاجمة الإسلام. وهو سلوك يبدو وقائيا تجاه ردود أفعال بعض المنظمات الإسلامية التي ستحاول استغلال هذه اللهجة الحادة لخدمة أغراض أخرى.
أسس المواجهة
يبدو أنّ هنالك إدراكا عميقا لدى القيادة السياسية البريطانية بأنّ العوامل الأيديولوجية ليست أسبابا هامشية في تشكيل ظاهرة التطرف في مختلف تجلياتها، لذلك اعتبرت على لسان كامرون أنّه ينبغي التصدي لها بقوة وحزم وعدم الاكتفاء بمواجهة نتائجها المدمّرة للمجتمع وللقيم التي بلورتها تجربة الديمقراطية البريطانية متعددة الأعراق والمعتقدات، القائمة على المبادئ الليبرالية التحررية التي تعتبر التعدد إثراء لها في مختلف المجالات.
ويرى كاميرون أنّ أفكار التعصب والتطرف الراديكالية شكلت، في كل مكان وزمان، قوة جذب كبيرة للشباب داخل كل المجتمعات الإنسانية وليست حكرا على التطرف ذي النزعة الإسلامية، كما دلت على ذلك تجربة ألمانيا النازية ومختلف النزعات الفاشية والشيوعية التي عرفها العالم. ولعل خطورة مختلف أشكال التطرف الراديكالي أنها تقدم نفسها في كثير من الأحيان باعتبارها تيارات فكرية مسالمة ومناهضة للعنف غير أنها وفي نقطة ما تتحول إلى القاعدة الخلفية القريبة والبعيدة لكل أشكال العنف الهمجي الذي يمثله اليوم تنظيم داعش الإرهابي.
التحريات والدراسات أطلقت ناقوس الخطر في ما يتعلق بالتهديدات المحدقة بالأمن والاستقرار جراء انتشار التطرف
لكن مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة لا يمكن أن تكون فعالة في مختلف المجالات، وفق رئيس الوزراء البريطاني، ما لم تكن مدعومة بتشجيع واضح وقوي لممثلي الإسلام المعتدل في البلاد من خلال فتح أبواب الإعلام والتواصل المختلفة أمامهم ليوضحوا لأبناء عقيدتهم الأبعاد الإيجابية فيها، وكيف أنه لا يمكن إخضاعها إلى تأويلات المتطرفين الذين عادة ما تعلوا أصواتهم فوق أصوات المعتدلين في مختلف وسائل الإعلام. وهو ما يعني أن كاميرون يعتبر أن نقل المعركة مع التطرف إلى أرضية إسلامية صرفة، قد يؤدي إلى نتائج إيجابية ربما أكثر من المعارك التي توجه إليه من خارج المنظومة الإسلامية، لسهولة توجيه أصابع الاتهام إلى الآخرين بالتآمر على الإسلام بمجرد صدور رأي هنا آو هناك ينتقد بعضا من سلوك دعاة الكراهية والتطرف ويحاول تفكيك خطابهم .
وعلى مستوى آخر يرى كاميرون أنّ هناك نقصا ملحوظا في اندماج أبناء المسلمين، بل وحتى رفض بعضهم لهذا الاندماج في المجتمع البريطاني، بما في ذلك من ولدوا في بريطانيا ودرسوا في معاهدها وجامعاتها. وهنا مكمن الخطورة، حسب رأيه، لأن ولاء هؤلاء لبلدهم، الذي استفادوا من قيمه والحقوق التي يوفرها لجميع مواطنيه بغض النظر عن أعراقهم وخلفياتهم الثقافية والدينية، لا يتجاوز الحدود الدنيا، في كثير من الأحيان، بل قد نجد عند بعضهم الغياب الكامل لأيّ نوع من أنواع الولاء لوطنهم، لذلك تجدهم لا يترددون في الالتحاق بالتنظيمات ذات الأيديولوجيات المتطرفة.
الاندماج مقابل الانكفاء
تلقي بعض الجمعيات والمنظمات ذات التوجهات الإسلامية في بريطانيا، في ما يتعلق بمسألة الاندماج هذه، باللائمة على سياسات الحكومات المتعاقبة تجاه الجالية المسلمة في البلاد، والتي ترى أنها تعاني من مختلف أشكال التهميش وربما التمييز من بعض التيارات اليمينية المتطرفة وهو ما يدفع الشباب إلى الانكفاء والتقوقع على ذواتهم، الأمر الذي يتسبب في انقطاع أواصر التواصل مع محيطهم ويؤدي، في أحيان كثيرة، إلى عدم القدرة على الصمود في وجه بعض الدعايات المتطرّفة التي تُحاول استغلال وقائع بعينها لإقناع الشباب المسلم المغترب بالأطروحات المتشددة.
كاميرون يرى أنّ هناك نقصا ملحوظا في اندماج أبناء المسلمين، بل وحتى رفض بعضهم لهذا الاندماج في المجتمع البريطاني
وفي سياق هذا التصور تندرج ردود فعل هذه المنظمات على خطاب كاميرون. ذلك أن هذه المنظمات تعتبر أنّ ما ينبغي العمل على التصدي إليه هو مختلف أشكال التهميش التي يتعرض لها مسلمو بريطانيا رغم أنهم يشكلون أقلية هامة، وكان يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي في تطوير مقومات التعايش وترسيخ السلم الاجتماعي.
وقد كان من اللافت في خطاب كاميرون، مطالعته الفكرية والسياسية في دحض دعاوى بعض التيارات الإسلامية الراديكالية حول كون التطرف والإرهاب ومعاداة قيم الديمقراطية والتعايش مجرد ردود أفعال شبه طبيعية على السياسات الغربية المتّبعة تُجاه العالم الإسلامي وقضاياه والحروب التي انخرطت فيها الدول الغربية في العراق وأفغانستان وغيرها، مُعتبرا أنّ مثل هذه الحُجج مردودة على أصحابها لأنّ اعتداءات نيويورك وواشنطن في سبتمبر 2001 كانت سابقة لهذه الأحداث، وبالتالي، فإنه من الضروري التعمّق في فهم ظاهرة التطرف لضمان فعالية خطط محاربته على خلفية أن كل محاولة لتبريره أو الدفاع عنه تحت أي ذريعة كانت، هي مكمن خطر داهم في كل وقت وحين.
وعلى ضوء المبادئ التي أطّرت هذه الاستراتيجية الحكومية سيتم الإعلان في الخريف المقبل عن إجراءات عملية تنفيذية على مدى الأعوام الخمسة المقبلة. ومن المنتظر أن تكون المرحلة الفاصلة بين خطاب بيرمنغهام وبين صدور قرارات الخريف مليئة بالجدل السياسي حول مدى فعالية الإجراءات المنتظرة ومدى وفائها لقيم التعايش والمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان لاسيما أنّ كلّ الإجراءات الزجرية قد تعرف في الواقع تطورات على هذا المستوى أو ذاك ولا تكون دائما متطابقة مع الغايات التي تمّ سنها في سبيل تحقيقها.