برامج التوك شو العربية.. تناسب عكسي مع وعي المشاهد

ازدهرت منذ عام 2011 في العالم العربي برامج حوارية بشكل غير مسبوق، رغم تواجدها في السابق على استحياء في بعض الدول وبدرجة أوسع في دول أخرى كمصر التي تشهد اليوم تراجعا في شعبية هذه البرامج، وفي المقابل ازدهارا في جمهور برامج ترفيهية ساهمت في تدني المحتوى على أغلب شاشات الفضائيات المعروفة.
الثلاثاء 2015/12/15
وفرة في البرامج.. وندرة في الأفكار

كان من المعتاد القول إن البرامج الحوارية في مصر كالأشجار الاستوائية التي تنمو في الأجواء الحارة فقط، منذ اندلاع احتجاجات شعبية حاشدة أطاحت في يناير 2011 بالرئيس الأسبق حسني مبارك.

ويبدو أن هذه المقولة أثبتت صحتها مع مرور الوقت. فمنذ ذلك الحين تشهد نسب مشاهدة البرامج الأشهر في مصر تراجعا حادا وبات نجومها موضع انتقاد مستمر على مواقع التواصل الاجتماعي، وفقدت الكثير من البرامج الأشهر زخمها بعد إطاحة الجيش في يوليو 2013 بنظام الرئيس محمد مرسي إثر مطالبة الملايين من المصريين بإنهاء حكمه.

وبعدما كان المصريون ينتظرون بفارغ الصبر إعلاميين اعتادوا على متابعة برامجهم طوال الوقت، باتوا اليوم يقضون أوقاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي في التهكم على إعلاميين يقولون إنهم فقدوا مصداقيتهم وأصبحت نسب مشاهدة برامجهم أحيانا لا تذكر.

لكن لا يبدو أن هذه الظاهرة منحصرة فقط في مصر، إذ شهدت نسبة مشاهدة البرامج الحوارية في قنوات عربية وعالمية أيضا تراجعا ملحوظا.

ولم تعد برامج حوارية شهيرة كبرنامج “أمبامبور” الذي تقدمه الإعلامية الشهيرة كرستيان أمبامبور يحظى بنفس درجة المتابعة التي لطالما استحوذ عليها في السابق، وهو ما دفع إدارة قناة سي آن آن الأميركية إلى تقليص وقت عرض البرنامج اليومي. وأضطر لاري كينغ أحد أهم مقدمي البرامج الحوارية في الولايات المتحدة إلى الانتقال للعمل في قناة “آر تي” المملوكة للحكومة الروسية بعد التراجع الكبير الذي شهده جمهور البرامج الحوارية هناك.

تشابه الأجندات والموضوعات والضيوف إلى حد التطابق أصاب المشاهدين بالملل

وتحرص القنوات العالمية الآن على الطابع الإخباري للبرامج الحوارية التي تقدمها على شاشاتها.

ومازالت هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي تصر على هذا الطابع الذي يتميز به برنامج “كلام صعب” (هارد توك) الذي يقدمه الإعلامي البريطاني ستيفن ساكور، بالاشتراك أحيانا مع زميلته البريطانية من أصول سودانية زينب بدوي. ومنذ إطلاق خدمتها الدولية في بريطانيا في أكتوبر العام الماضي، حرصت آر تي على اتباع نفس الاستراتيجية في تبني الطابع الإخباري لبرنامجها الحواري الرئيسي “حديث متقاطع” (كروس توك) الذي يقدمه الإعلامي البريطاني بيتر لافيل.

ويقول متخصصون في الإعلام إنه إذا كانت البرامج الحوارية “التوك شو” بشكل عام قد شهدت انتشارا واسعا، بسبب ارتفاع درجة الحرية السياسية في دول غربية عدة، فإنها انتعشت في الكثير من الدول العربية إثر فقدان هذه الميزة، إذ تحولت بعض البرامج إلى ما يشبه “التنفيس السياسي”، خصوصا أن عددا منها أخذ طابعا مغذياٍ لمعارك كلامية لا تفضي إلى ما يتطلع إليه المشاهد.

وظهرت البرامج الحوارية العربية في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ودأبت منذ تأسيسها على توجيه انتقادات حادة للحكومات في أجواء لا تكتسب فيها حرية التعبير شعبية كبيرة، فنجحت في خلق قاعدة واسعة لها.

وشجعت حكومات عربية عدة ظاهرة البرامج الحوارية، باعتبارها وسيلة تغنيها عن الوفاء بأي استحقاقات ديمقراطية حقيقية، لكن منذ ذلك الحين لم تشهد هذه البرامج أي تغيير يمكن التعويل عليه.

يد واحدة لا تصفق

وقال سامي عبدالعزيز عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة “يجب على كل القنوات الفضائية إعادة النظر في ما تقدمه، وعلاقة محتوى البرامج بالمجتمع الذي تتواجد فيه وتوجه له رسالتها الإعلامية، والابتعاد عن التركيز على المواد الترفيهية، وعدم التوقف عن تقديم مضامين جادة ومفيدة للمجتمع العربي”.

والنمطية ووحدة التوجهات والأجندات المتشابهة، من الأسباب الرئيسية لتراجع برامج “التوك شو”، وانعكس ذلك على نسب المشاهدة، وفي الكثير من الأحيان أجبرت قنوات عديدة على اللجوء إلى تقديم برامج ترفيهية على أمل النجاح في جذب أعداد أكبر من المشاهدين.

ويقول مراقبون إن تراجع المهنية بات ملحوظاً في الآونة الأخيرة في برامج تعمدت في مناسبات عدة إغفال تناول القضايا الساخنة والمؤثرة على مصير المجتمعات العربية، ودخلت في صراعات شخصية، وغلبت الإثارة في الشكل على الاهتمام بالمضمون والأفكار، وسعت عبر تسطيح الأراء إلى استهداف قطاع جمهور الإثارة دون الالتفات إلى المحتوى.

عروض تفاعلية

أثر ظهور مواقع التواصل الاجتماعي على صناعة البرامج الحوارية عالميا بشكل جوهري، وتراجعت مع ذلك مكانة التلفزيون بشكل غير مسبوق وفقد الكثير من التأثير الذي كان يحظى به في السابق.

ووجد الكثيرون ضالتهم في مواقع كفيسبوك وتويتر، إذ يشبع التواصل عبرها رغبات افتقدها الكثيرون ممن كانوا يعتمدون على التلفزيون سابقا كمصدر رئيس للمعلومات.

سامي عبدالعزيز: الفضائيات تسابقت في إطلاق البرامج دون خطط مستقبلية أو قياسات للرأي العام

وعلى عكس البرامج التلفزيونية، يسمح العرض التفاعلي على مواقع التواصل الاجتماعي بفتح نقاش موسع تتعدد خلاله الآراء حول قضية محددة، من دون الحاجة إلى الاستماع طوال الوقت لأراء مقدمي البرامج أو الضيوف.

وقال عادل عبدالغفار، عميد كلية الإعلام جامعة بني سويف (جنوب مصر)، إن غالبية المشاهدين “لجأوا إلى مواقع التواصل الاجتماعي إذ جذب تويتر وفيسبوك ويوتيوب وانستغرام وواتساب وسكايب الكثير من الشباب الذين وجدوا في هذه التطبيقات نافذة يطلون منها دون رقيب أو حسيب ومتنفسا للتعبير عن الرأي، وأرخى هذا أيضا بتداعيات سلبية على برامج التوك شو، لكنه أدى إلى حالة من البلبلة والسطحية، ومن هنا يمكن أن تظهر على المدى البعيد مخاطر متنوعة وكبيرة تسبب اللجوء إلى مواقع التواصل الاجتماعي”. ومنذ وصول نسب مشاهدة البرامج الحوارية في مصر إلى أدنى مستوياتها، بدأ مالكو قنوات فضائية في الاعتماد أكثر من أي وقت مضى على برامج ترفيهية، سعيا إلى تعويض الخسائر التي منيت بها هذه القنوات جراء الاعتماد على البرامج السياسية منذ احتجاجات يناير.

ولا يرجع إقبال المشاهدين على البرامج الترفيهية في الكثير من الأحيان إلى جودة المحتوى، لكنه يظل إحدى نتائج التخمة التي أصابت المشاهد في مصر والكثير من بلدان العالم العربي من تشابه المحتوى والتكرار المستمر لنفس الضيوف، والابتعاد عن التغيير.

وفي الكثير من الأحيان تمكنت برامج ترفيهية من تحقيق الفارق في نسب المشاهدة.

ومن بين هذه البرامج “صاحبة السعادة” الذي تقدمه الفنانة إسعاد يونس على “سي بي سي” المصرية، وبرنامج “معكم” تقديم منى الشاذلي على نفس القناة.

إعلام مسلوق

واشتهرت منى الشاذلي منذ منتصف العقد الماضي بتقديمها برنامج “العاشرة مساءً” الحواري على قناة دريم قبل أن يتولى تقديمه زميلها السابق وائل الإبراشي.

وانتقلت الشاذلي بعدها لتقديم برنامج حواري آخر باسم “جملة مفيدة” على قناة “إم بي سي مصر” التابعة لشبكة “إم بي سي” المملوكة لرجال أعمال سعوديين، قبل أن تتحول إلى البرامج الترفيهية.

لكن التوسع في سوق البرامج الترفيهية أدى في الكثير من الأحيان إلى تحول إعلاميين بشكل كبير إلى تقديم محتوى أثار جدلا غير مسبوق.

وكان برنامج "الراقصة" الذي عرض على قناة "القاهرة والناس" واسعة الانتشار (وهو برنامج خصص لمسابقات الرقص الشرقي) أحد هذه البرامج التي كانت سببا في إثارة الرأي العام ورجال دين في مصر تجاه إدارتها. وعرضت قناة “النهار” الفضائية أيضا برنامجا لمسابقات الرقص الغربي.

وتوسعت قنوات عدة في تقديم برامج الطهي، كقناة “الحياة” وقناة “المحور”، كما حظيت مسابقات المواهب بإقبال غير مسبوق.

أجندات متشابهة

وصعود البرامج الترفيهية ليس السبب الوحيد وراء تراجع نظيرتها الحوارية.

ويقول عبدالغفار إن “السبب الرئيس وراء التراجع اللافت في البرامج الحوارية “يكمن في تشابه الأجندات الخاصة بخريطة البرامج، والتي تصل إلى حد التطابق، فالموضوعات تتكرر وربما الضيوف بوتيرة سريعة، فضلا عن نمطية الأداء، الذي أصاب قطاعا كبيرا من المشاهدين بالملل”.

وأوضح عبدالغفار لـ”العرب” إن “التنوع من عوامل الجذب الرئيسي والهام للمشاهد، لكن الرتابة وغياب المهنية تسببا في عزوف قطاع كبير من الجماهير عن الشاشة، فالبرامج باتت كلامية، الأمر الذي أصاب الناس بحالة من التشبع، في حين غفل القائمون على تلك البرامج عن انحدار مؤشر المشاهدة، وابعتدت الكثير من البرامج عن التطوير والتجويد”.

وفي الآونة الأخيرة بدأت قنوات فضائية مصرية في تجزئة البرامج لتعويض تراجع “التوك شو”، وخصصت برامج للرياضة والفن والمسابقات والطهي، لضمان نسب مشاهدة عالية تتمكن من خلالها من إغراء معلنين جدد.

البرامج السياسية دأبت مؤخرا على تقديم محتوى كالطبيخ البائت، فاتجه المصريون إلى برامج طهي تقدم طبيخا طازجا

التأثير في المجتمع والمساهمة في إيجاد حلول للأزمات العامة، مثل التعليم والصحة وغيرهما، هما الدور الرئيسي لبرامج التوك شو، لكن البرامج الحوارية في القنوات العربية لم تعد على ما يبدو مؤهلة لطرح هذه القضايا، وبدلا من ذلك اعتمدت بشكل كبير على قضايا يومية يمكن متابعتها من مصادر أخرى.

ويقول سامى عبدالعزيز إن أفول نجم البرامج الحوارية العربية يرجع إلى “النظام المؤسسي للكيانات الإعلامية، حيث يعاني معظمها من خلل في منظومة الإدارة، ما جعلها تتسابق في إطلاق البرامج، دون تخطيط أو القيام بقياسات للرأي العام، ووضع رؤى مستقبلية للتطوير، بما يضمن الاستمرار والتفوق بل والقدرة على المنافسة الجادة”.

وفي سعيها للتجديد وتعويض خسائرها الكبيرة اعتمدت قنوات فضائية عدة في مصر على المذيعين النجوم وعدد من الفنانين، كما استعانت ببعض مقدمي البرامج المثيرين للجدل، دون تحسين المحتوى.

وقال عبدالعزيز لـ"العرب" إن “الأزمة الاقتصادية التي عانت منها مصر مؤخرا، كشفت عن هشاشة الكثير من المشروعات الإعلامية، فبمجرد تراجع نسب الإعلانات انهارت بعض البرامج، ولم يعد لأي منها طعم يميزها عن غيرها، ما أفقدها القدرة على التأثير في المشاهدين”

13