براغماتية ديغول التي قادته إلى منح الجزائر حق تقرير المصير

الرجل كان ينظر إليه على أنه رجل المرحلة الوحيد القادر على انتشال فرنسا.
الثلاثاء 2022/02/22
مغامرة ديغول التي لا تزال تثير اختلاف الفرنسيين

باريس – مع اقتراب الاحتفال بذكرى توقيع اتفاقيات إيفيان التي مهدت لمنح الجزائر استقلالها يعود إلى واجهة الأحداث اسم الجنرال شارل ديغول وسط اختلاف بشأن سياساته التي لعبت دورا بارزا في منح الجزائر حق تقرير المصير.

والجنرال ديغول (1890 – 1970) انتهج سياسة إزاء الجزائر تتسم بمبدأ الواقعية، حيث خلُص انطلاقا من ذلك إلى أنه لا بد من تأييد منح البلاد حق تقرير المصير رغم تداعيات ذلك عليه في وقت لاحق.

وكان ديغول قد زار الكونغو برازافيل في الرابع والعشرين من أغسطس عام 1958 حيث أطلق عملية إزالة الاستعمار ومنح الاستقلال لدول أفريقيا من خلال تأسيس “مجموعة فرنسا – أفريقيا” ليقوم بعد ذلك بأربع سنوات إثر الأزمة الجزائرية التي أطاحت بالجمهورية الرابعة في بلاده بوضع حد لحرب الجزائر.

وفي مايو 1958 قال ديغول بعد عودته إلى الحكم بتأثير من حرب الجزائر “هذه مشكلة لا يمكن حلّها، إنما نتعايش معها”.

موريس فاييس: ديغول أدرك أن مصلحة فرنسا في وقف الاستعمار

وكان الرجل الذي أطلق النداء إلى مقاومة ألمانيا النازية سنة 1940 لا يزال يحتفظ بهالة من الاحترام، وكان ينظر إليه على أنه رجل المرحلة الوحيد القادر على انتشال فرنسا من المستنقع الجزائري السياسي والاقتصادي والإنساني.

وفي الجانب الآخر من المتوسط كان الفرنسيون في الجزائر مقتنعين بدورهم أن الرجل الذي قاتل قبل 15 عاما من أجل تحرير فرنسا والحفاظ على سلامة أراضيها سينقذ الجزائر الفرنسية.

لكن ديغول العائد إلى السلطة بعد عشر سنوات “لم تكن لديه أي فكرة عمّا يمكن أن يفعله”، وفق ما يقول المؤرخ موريس فاييس.

وأحاط نفسه بشخصيات مؤيدة لبقاء الجزائر فرنسية، وبآخرين يؤيدون استقلال الجزائر التي كانت تستعمرها فرنسا منذ العام 1830.

ويضيف فاييس “كان يعلم أن ثمة اتجاها عاما لوقف الاستعمار، ولم يكن يدعي أن الجزائر ستبقى فرنسية إلى الأبد”، لكن لم يكن له موقف عقائدي من الموضوع.

وتنسب إليه مواقف في مجالس خاصة حول الجزائر لم يكن في الإمكان التحقّق منها. لكن في خطاباته العلنية حفظ التاريخ خصوصا عبارة “فهمتكم” التي توجه بها إلى حشد من الفرنسيين في الجزائر يطالبون ببقاء الجزائر فرنسية في الرابع من يونيو 1958، بعد ثلاثة أيام فقط على تسلمه الرئاسة.

وأثار ذلك تساؤلات عن المغزى من عبارة “فهمتكم” ما جعل الفرنسيين يفسرونها بأشكال مختلفة وكأنه أراد عمداً ألا يكون واضحاً حتى يرضي الجميع.

وكان هذا التناقض السبب لاحقا في اتهامه من جانب الفرنسيين في الجزائر وجزء من الجيش بـ”الخيانة”، مذكرين إياه بأنه قال “لتحيا الجزائر الفرنسية” على هامش زيارة إلى وهران في السادس من يونيو 1958.

سيلفي تينو: ديغول أراد خوض سلام الشجعان لكن جيش التحرير رفض عرضه

ويرى فاييس أنه “لا يمكن الحديث عن خيانة”، مضيفا “كان يبحث عن مصلحة فرنسا. وعن بقائها في الجزائر. كيف؟ لم يكن يعرف يومها الطريقة”.

وسمح له هذا الغموض بكسب الوقت. لا بل بدأ يسير على خطى القادة الفرنسيين الذين سبقوه، معتبرا “أن إصلاح الجزائر سيسمح بإنقاذها. فأنشأ الهيئة الانتخابية الواحدة وأطلق برنامجا صناعيا مع خطة قسنطينة”، وفق ما تشرح المؤرخة سيلفي تينو المتخصصة في حرب الاستقلال الجزائرية.

وتقول إنه حاول أيضا أن يخوض “سلام الشجعان”، لكن جيش التحرير الوطني (الجناح العسكري لجبهة التحرير) رفض عرضه.

واعتبارا من عام 1959 شهدت سياسته منعطفات عدة، إذ قال في مارس 1960 أمام العسكريين في الجزائر إن الاستقلال “خدعة”، لكنه عاد واختار السير نحو القبول بجزائر جزائرية.

وحصل المنعطف الحاسم في السادس عشر من سبتمبر 1959، يومها أعلن ديغول أن للجزائريين الحق في تقرير المصير، ما اعتبر وثيقة وفاة حقيقية للجزائر الفرنسية.

وأخذ بالاعتبار واقع الأرض في الجزائر، وتشويه صورة فرنسا في العالم، واتهامات ضدها في الأمم المتحدة والتغيير في صفوف الرأي العام الفرنسي، إذ انتشرت على كل الجدران في كل الأراضي الفرنسية عبارة “السلام في الجزائر”.

وحسم ديغول الذي لطالما قال إن “لا قيمة لسياسة خارج الواقع” القرار، معتبرا أن الأمر لا يستحق كل هذه التضحيات.

ويقول فاييس “كان براغماتيا، ووصل إلى نتيجة مفادها أن مصلحة فرنسا تكمن في وقف الاستعمار”، وطوى صفحة في تاريخ فرنسا، ولو أن تداعياتها لا تزال تتردد حتى اليوم.

6