براعم تونس بين خندقي الشوارع والتطرف

تونس- يقف مراد الرياحي، ذو العشر سنوات في نهج أسبانيا وسط العاصمة تونس بوجه شاحب داكن يعلوه اصفرار ولباس رث، أمام خرقة من القماش بسط عليها ما تيّسر له من ألعاب الأطفال والسجائر المهرّبة. وتجلس قبالة مراد طفلة بشعر أشعث ووجه كئيب تدعى عربية المثلوثي عارضة على الرصيف بعض مواد التجميل المهربة أيضا وسط طابور من الباعة المتجولين ازداد طولا في العشر الأواخر من شهر رمضان. وقبل حلول عيد الفطر تحول وسط العاصمة إلى فوضى من الأسواق المتجولة توفر للفئات الهشة شتى أنواع السلع المهربة في بلاد يمثل فيها التهريب 54 بالمئة من الاقتصاد المنظم، ويكبدها خسائر تصل إلى 500 مليون دولار سنويا وفق بيانات حكومية.
وعلى بعد نحو كيلومتر واحد يعتكف رمزي بلحاج (12 عاما) من صلاة الظهر إلى صلاة المغرب في مسجد الفتح معقل سلفيي تونس برفقة 5 من الأطفال الذين يتقاسمون الأفكار المتشددة بعد أن شحنت عقولهم خلايا سلفية بثقافة عذاب القبر والحلال الحرام وجنة الفردوس والحور العين. ولا يجاهر الطفل بانتمائه إلى أي جماعة سلفية، غير أن حديثه يوحي بأنه يتبنى فكرا دينيا متشددا.
ويقول رمزي بلحاج إنه تعرف على “إخوته في الإسلام” داخل المسجد، وأنهم يتدارسون يوميا بعد صلاة العصر كتب السلف الصالح ومسائل عقائدية، منها المواظبة على الالتزام بالفرائض والاقتداء بسيرة الرسول صلى الله عيه وسلم وعدم التفريط فيها بما في ذلك التزود بالعقيدة للفوز بالآخرة. وتكفي المقارنة بين مراد وعربية من جهة وبين رمزي من جهة أخرى، لنكتشف أن الآلاف من أطفال تونس ذكورا وإناثا باتوا تحت رحمة التشرد في الشوارع وممارسة المهن الوضيعة وخلايا الجماعات السلفية التي ترفع كل رمضان من استقطابها للأطفال تأويلا منها بأنه شهر الثواب. وفي مشهد مأساوي، يتقاسم الأطفال الثلاثة فقرهم وهمومهم وحرمانهم ليسددوا فاتورة اجتماعية كارثية نتيجة أكثر من خمس سنوات من التهميش والحيف والتيه بعد أن اهتز التماسك العائلي وتسلل التفكك إلى النسيج الأسري وباتت الشوارع والخلايا السلفية حضنا لبراعم غضة لم تجد الرعاية اللازمة.
أكثر من 50 بالمئة من الأطفال التحقوا بأطفال الشوارع خلال السنوات الخمس الماضية بسبب هشاشة الوضع العائلي وتفكك النسيج الأسري
وقبل الإفطار، يعود كل من مراد وعربية إلى منزلهما بعد يوم قضياه تحت لهيب الشمس الحارقة ودرجات الحرارة المرتفعة حاملين معهما بعض الدنانير جنياها من تجارة ازدهرت خلال شهر رمضان، فيما يعود رمزي قبل المغرب بساعة مشحونا بأفكار ابن تيمية وابن قيم الجوزية وسيد قطب وأبوالأعلى المودودي. ولا يعد كل من مراد وعربية ورمزي حالة استثنائية في المجتمع التونسي، بل هم عيّنة لمدى خطورة انتشار ظاهرة أطفال الشوارع الذين باتوا لقمة سائغة لشتى مظاهر التشرد وغسيل الأدمغة من قبل المتشددين.
وينحدر الأطفال الثلاثة من عائلات فقيرة تسكن في أحياء دوار هيشر والجيارة والانطلاقة الشعبية، تقع شمال غرب العاصمة، وهي عائلات فرّت من فقر أرياف جهات الشمال الغربي مثل محافظات باجة والكاف وسليانة حالمة برغد العيش لتجد نفسها تتخبط في مستنقع من الفقر أشد وأقسى. وحين تقترب من الأطفال الثلاثة وتتحسّس حرمانهم المكتوم تكتشف أن هناك خيطا رفيعا مشتركا يجمع بينهم، إذ يقتات الأب من عمل غير منتظم في حظائر البناء، فيما تعمل الأم بصفة متقطعة كمعينة منزلية في أحد الأحياء الراقية.
ويقول الأخصائيون الاجتماعيون، إن الأطفال هم الضحية الأولى لهشاشة الأوضاع العامة إذ تقدر وزارة الشؤون الاجتماعية عدد أطفال الشوارع بنحو 5 آلاف طفل باتوا تحت رحمة الشوارع والخلايا الجهادية في شهر الرحمة.
|
وأظهرت دراسة أجراها عدد من المختصين في العلوم الاجتماعية والنفسية في إطار المركز التونسي للدراسات الاجتماعية، أن أكثر من 50 بالمئة من الأطفال التحقوا بأطفال الشوارع خلال السنوات الخمس الماضية.
ويبدو الأطفال الذين يمتهنون مهنا وضيعة “محظوظين” مقارنة بـ”زملائهم” الذين يشتغلون في ورشات الحدادة والنجارة وإصلاح السيارات ونبش القمامة، وهي أعمال تعكس مدى استغلال المجتمع لبراعم لم يشتد عودها بعد.
وتجاهد الجماعات السلفية التي فرّخت في الأحياء الشعبية وتنشط تحت غطاء “الجمعيات الخيرية” من أجل استقطاب أطفال الشوارع من خلال استمالتهم دينيا، حيث تنظم لهم دروسا في المساجد كخطوة أولى لضمهم إلى صفوفها. وتقول مصادر أمنية إن خلايا الجماعات الجهادية استخدمت حوالي 3 آلاف طفل خلال العام 2015 ضمن جهازها الاستخباراتي واللوجيستي.
وتطالب المنظمات المعنية بحماية الطفولة الحكومة بوضع خطة استراتيجية شاملة اجتماعيا لإنقاذ الآلاف من الأطفال المشردين في الشوارع ويمارسون مهنا وضيعة لا يجنون منها سوى التهميش والإحباط. كما تطالب العديد من المنظمات بتأطير الأطفال ثقافيا ودينيا عبر خطاب ديني معتدل يقطع الطريق أمام الجماعات السلفية لاستقطاب هذه البراعم ويحصّنها ضد مظاهر التشدد.