بحيرة ساوة في العراق لؤلؤة بلا ماء

تغير المناخ يخلف انخفاضا قياسيا في هطول الأمطار وجفافا متعاقبا.
الأربعاء 2022/06/15
كانت مزارا سياحيا واستشفائيا

يتحالف إهمال المسؤولين في السلطة وسوء إدارة المستثمرين المحليين مع التغيرات المناخية على بحيرة ساوة العراقية التي كانت تعد لؤلؤة الجنوب والتي عرفت بمياهها الصافية، لكنها اليوم أصيبت بالجفاف وتحولت إلى أكوام من الملح تطرد المزارعين والرعاة من حولها بعد أن كانت تؤمّن لهم مصدر رزق ثمين.

سامية كلاب

بحيرة ساوة (العراق) – يتذكر حسام العاقولي مياه بحيرة ساوة الصافية في جنوب العراق حيث غطّست ابنتاه ذات مرة أقدامهما فيها. ووقف في نفس المكان بعد سنتين ونظر إلى الأرض القاحلة تحت قدميه، حيث جفت البحيرة هذا العام، ولأول مرة في تاريخها الممتد على مدى قرون. فقد أدى مزيج من سوء إدارة المستثمرين المحليين وإهمال الحكومة وتغير المناخ إلى تجفيفها إلى أكوام من الملح.

وليست البحيرة سوى أحدث ضحية في هذا الصراع الواسع على مستوى البلاد مع نقص المياه الذي يقول الخبراء إنه ناجم عن تغير المناخ، الذي شمل انخفاضا قياسيا في هطول الأمطار والجفاف المتعاقب.

ويؤدي الضغط على الموارد المائية إلى زيادة المنافسة على المورد الثمين بين رجال الأعمال والمزارعين والرعاة الذين يُعدّون من بين الأكثر تضررا من الكارثة.

مصدر مياه البحيرة أثار حيرة الخبراء ما أدى إلى تأجيج الحكايات الخيالية والدينية التي يعتبرها السكان حقائق تاريخية

وقال العاقولي البالغ من العمر 35 عاما، وهو من مدينة السماوة المجاورة “كانت هذه البحيرة تُعرف باسم لؤلؤة الجنوب، لكنها أصبحت مأساتنا الآن”.

وبين العاصمة بغداد ومحافظة البصرة الغنية بالنفط، تعتبر المثنى من بين أفقر محافظات العراق. ويصل عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر في المقاطعة إلى ما يقرب من ثلاثة أضعاف المعدل الوطني.

وتهيمن المساحات الصحراوية على المناظر الطبيعية مع شريط ضيق من الأراضي الزراعية على طول نهر الفرات في الشمال. وتعرقلت التنمية الاقتصادية بسبب تاريخ البلاد المضطرب بسبب الحروب والعقوبات. ويطلق السكان المحليون على المنطقة المحيطة ببحيرة ساوة اسم “عطشان”.

وتشكلت البحيرة فوق صخور من الحجر الجيري، وكانت دون مداخل أو مخارج. وأثار مصدر مياهها حيرة الخبراء لعدة قرون، مما أدى إلى تأجيج الفلكلور الخيالي والحكايات الدينية التي يرددها السكان المحليون على أنها حقائق تاريخية.

وقضى العاقولي طفولته يتردد على البحيرة مع أسرته، وقال إنه يأمل أن يفعل الشيء نفسه عندما يكوّن أسرة، لكنه يقضي أيامه على وسائل التواصل الاجتماعي يكتب منشورات طويلة على المدونات ويحث العراقيين على اتخاذ إجراءات.

وترتفع البحيرة 5 أمتار فوق مستوى سطح البحر ويبلغ طولها حوالي 4.5 كيلومتر وعرضها 1.8 كيلومتر. وتظهر في بعض النصوص الإسلامية القديمة. حيث يقال إنها تشكلت بمعجزة في اليوم الذي ولد فيه النبي محمد سنة 570 بعد الميلاد. وكان الآلاف من السائحين المتدينين يزورون الموقع سنويا ليغمروا أنفسهم في مياهه المقدسة، التي يعتقدون أن الله باركها.

ويعتبر البعض الرواسب المعدنية الغنية بالبحيرة علاجا للأمراض الجلدية السائدة في محافظة المثنى المُهملة تاريخيا. ويقول السكان المحليون إن جفاف مياهها ينذر بعودة الإمام المهدي. وقال العاقولي مازحا “يعني هذا اقتراب نهاية العالم”.

لكن دعاة حماية البيئة يرون حقيقة وراء التوقعات المنذرة باقتراب النهاية، حيث أظهرت الدراسات أن البحيرة تتغذى من مصادر المياه الجوفية من خلال الشقوق والتصدعات، كما يمكنها استقبال مياه الأمطار من الوديان المحيطة بها، وتسبب هطول الأمطار الغزيرة في السنوات الماضية في حدوث فيضانات مفاجئة.

عنوان للإهمال
عنوان للإهمال

وقال الناشط البيئي ليث علي العبيدي “بدأ تدهور المياه منذ أكثر من 10 سنوات، لكن هذا الصيف كان المرة الأولى التي تجفّ فيها الأرض الرطبة بأكملها”.

وقال خبراء إن البحيرة لم تجف نهائيا، لكن اختفاءها هذا العام هو نتيجة مقلقة للآلاف من الآبار غير القانونية التي حفرها رجال الأعمال في مصانع الأسمنت المجاورة ومناطق التصنيع، نتيجة الجفاف وتناقص المياه على طول نهر الفرات القريب. وقد بدأت بعض المياه في الظهور مرة أخرى بحلول أوائل يونيو لأن المزارعين توقفوا عن تحويل المياه الجوفية بعد انتهاء موسم الحصاد.

وتتراكم أكوام الملح على الطريق المؤدي إلى المساحة المائية في محافظة المثنى ويشرف عليها السكان المحليون المغامرون الذين يستخرجونها عن طريق تحويل المياه الجوفية وحفر الآبار.

ويستخدم الملح كمادة خام في صناعات مختلفة في المنطقة، وانخرط مرتضى علي، البالغ من العمر 45 عاما، في تجارة الملح في المثنى. وهو يلقي باللوم في اختفاء البحيرةعلى سنوات من الإهمال الحكومي في المحافظة.

وقال “يجب أن يوفروا للناس وظائف حتى لا يضطروا لحفر الآبار لكسب لقمة العيش”.

وقال عون ذياب مستشار وزارة الموارد المائية إن فرض إغلاق الآبار غير القانونية واتخاذ إجراءات وقائية إضافية كان من شأنه أن يعكس تراجع البحيرة، لكن هذه الأمور كانت ستؤثر بشكل مباشر على مصالح المسؤولين الإقليميين الاقتصادية.

وقد أدى ذلك إلى اختلال النظام البيئي الدقيق والمترابط، حيث كانت أنواع الأسماك غير الصالحة للاستهلاك البشري غذاء لمختلف الطيور المهاجرة الضعيفة التي تحط على ضفافها. وقال العبيدي “مع اختفاء الأسماك ستضطر الطيور أيضا إلى تغيير مسارها الموسمي لتتجنب الهلاك”.

ويُنذر المستقبل بالمزيد من المصاعب، مع تنبؤات مثيرة للقلق بالمزيد من الإجهاد المائي.

وقالت وزارة الموارد المائية إن مستويات المياه انخفضت سنة 2022 بنسبة 60 في المئة مقارنة بالعام الماضي.

وقال العبيدي إن بحيرة ساوة تجسّد “دراسة حالة لتغير المناخ في العراق. هذا هو المستقبل”.

وقد تحولت البحيرة إلى شبح ماضيها اللامع السابق، حيث كانت المسطح المائي الوحيد بالقرب من مدينة السماوة. وكانت المنطقة تتباهى بالآلاف من السياح سنويا. وتبقى نفاياتهم، من زجاجات المياه وعلب الصودا والنعال المهجورة، على طول الشواطئ الجافة بمثابة مرثية لما فقدته المنطقة الفقيرة.

ويبقى ما شُيّد قبل عقود لجذب السياح إلى المنطقة غير مكتمل بعد نهب معظمه إثر حرب الخليج في التسعينات ثم بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في 2003.

وفي 2014 تقررت تسمية بحيرة ساوة ضمن مواقع رامسار، وهو تصنيف دولي للأراضي الرطبة المهمة، واكتسبت الاعتراف بكونها منطقة نادرة تحتاج إلى الحماية. وتطل لوحة إعلانية كبيرة بالمناسبة على الموقع.

وأملت السلطات المحلية آنذاك أن يعزز هذا السياحة والموارد الحكومية لاستئناف تنمية المنطقة، كما صيغت مخططات لشق الطرق والممرات حول البحيرة، بالإضافة إلى خطوط الكهرباء ومشاريع المياه، لكنها لم تتحقق في النهاية.

وكان الهواء الساخن ثقيلا، وألقى العاقولي نظرة أخيرة على البحيرة قبل مغادرته، قائلا “صدقوني، لقد كانت جميلة”.

18