بحارة غزة يجنون السمك والآلام

الصيد البحري في غزة مهنة شاقة خاصة في فصل الشتاء، ويخلف للبحارة أمراضا كثيرة، خاصة آلام الظهر والمفاصل الناتجة عن الجهد الكبير الذي يبذلونه.
السبت 2018/10/27
يرزقنا البحر من خيراته

غزة (فلسطين) - يلتف حبل غليظ حول كفيه متداخلا مع شقوق وتقرحات أحدثتها 5 عقود من العمل في مهنة صيد الأسماك، وتنغرس قدماه في رمال الشاطئ قبل أن يخرجهما ويتراجع خطوة واحدة إلى الوراء ساحبا شباكه الثقيلة بكل ما يملك من قوة وتبدو ملامح الإرهاق على وجهه وبياض عينيه المشوب بحمرة يوحي بليلة طويلة قضاها مبحرا.

بعد دقائق من السحب ظهرت الشباك أخيرا لتختفي معالم الإرهاق من وجه الصياد الفلسطيني العجوز عيد أبوهيثم، فقد حظيت شباكه بصيد وفير وظهرت فيها أسماك “البوري والغزلان والتونة الصغيرة” وهي تقفز محاولة العودة إلى المياه.

وما هي إلا دقائق حتى تجمع الناس على الشاطئ حول شباك الستيني أبوهيثم الذي بدأ بمساعدة ثلاثة من أبنائه في جمع الأسماك ووضعها في صناديق بلاستيكية قبل أن يغمرها بالثلج استعدادا لإيصالها إلى السوق.

وبينما كان يجمع أسماكه، يقول العجوز الفلسطيني، “الحمد لله كان الصيد اليوم وفيرا، يمكن أن نبيع هذه الأسماك بـ500 شيكل (نحو 140 دولارا)، لدي الكثير من النفقات الخاصة بالمنزل والعمل وهذا المبلغ كافٍ”.

ويضيف، “عملنا مرهق جدا ويسبب لنا أمراضا كثيرة خاصة آلام الظهر والمفاصل الناتجة عن الجهد الكبير الذي نبذله، إضافة إلى أجواء البرد الشديد التي نعمل فيها، لكن في النهاية هذا مصدر رزقنا الوحيد ولا يمكن أن نتركه”.

ولا يستطيع أبوهيثم الاعتماد على أبنائه كليا في رحلات الصيد، فلا بد من “ريس″ (قائد المركب) يديرهم معتمدا على خبرته الطويلة في هذا العمل. وليس بعيدا عن شباك أبوهيثم كان قارب كبير يطلق عليه محليا اسم “اللنش”، يرسو في ميناء مدينة رفح، أقصى جنوبي قطاع غزة، بعد رحلة صيد طويلة استمرت 18 ساعة متواصلة من عصر اليوم السابق.

وقبل أن يصل المياه الضحلة، توقف القارب وألقى طاقمه مرساة صدئة في المياه ليهبط منه صياد عجوز يربط على رأسه كوفية قديمة يحرك نسيم الصباح خيوطها المنسولة، إلى “حسكة” (مركب صغير) نقلته إلى الشاطئ الذي ما إن وصله حتى أجبرته آلام مفاصله على الجلوس على صخرة قريبة.

الصيادون تخطت أعمارهم الـ60 عاما، ورغم ذلك يواصلون عملهم في مهنة قاسية وخطيرة
الصيادون تخطت أعمارهم الـ60 عاما، ورغم ذلك يواصلون عملهم في مهنة قاسية وخطيرة

ومن على صخرته بدأ الصياد الستيني جمال محمد يوجه طاقم قاربه بإنزال السمك الذي اصطادوه بسرعة وتغطيته بقطع الثلج لينقله على متن شاحنته الصغيرة إلى “حسبة الأسماك” في مدينة غزة، فهناك يمكن أن يبيعه بسعر أعلى مما هو عليه الحال في رفح، لأن الطلب على شراء الأسماك هناك أكبر.

وبينما ينقل العمال صناديق السمك من “اللنش” إلى “الحسكة” ومن ثم إلى الشاطئ، يقول الريس جمال، “الحمد لله كان الصيد جيدا، حصلنا على كميات جيدة من أسماك السردين والغزلان والطرخون”.

وقبل أن يكمل حديثه أصابت صعقة ألم مفصل ساقه وغيرت مسار حديثه ليقول: “لم أعد أستطيع تحمل هذه الآلام، سأرسل ابني لبيع الأسماك، وأعود إلى المنزل لأحصل على قسط من النوم قبل أن يحين موعد رحلة الصيد التالية”.

والفلسطيني العجوز جمال يعمل في صيد الأسماك منذ كان عمره 15 عاما، حتى بات الصيد يمثل كل شيء في حياته، ورغم آلام المفاصل والظهر والرقبة التي ترافقه منذ سنوات جراء هذا العمل، إلا أنه لا يفكر في تركه فهو مصدر رزق عائلته الوحيد خاصة بعد أن تخرج ثلاثة من أبنائه من الجامعة ولم يجدوا عملا.

ويقول الصياد، الذي يلقب بـ”القبطان”، إن العشرات من الصيادين في غزة تخطت أعمارهم الستين عاما إلا أنهم يواصلون عملهم في هذه المهنة القاسية والخطيرة، لأنها تمثل مصدر رزقهم، والعمل الوحيد الذي يتقنونه.

ويواجه الصيادون وخاصة كبار السن منهم في فصلي الشتاء والخريف ظروفا مناخية قاسية، فدرجات الحرارة تكون منخفضة بشكل كبير في عرض البحر، والبرد يتسلل إلى عظامهم الواهنة ويتسبب لهم في آلام شديدة. كما أن رحلات الصيد تبدأ من وقت العصر وتنتهي في فجر اليوم التالي وهو ما يتطلب يقظة دائمة وجهدا مضاعفا من الصيادين.

17