"بارانويا" مسلسل لبناني - سوري عن عوالم النفس البشرية وتقلباتها

نادرا ما تقدم الدراما العربية موضوع العوالم النفسية وتقلباتها في أعمالها، لما يتطلبه ذلك من بحث وجهد في سبيل إيجاد نص محكم معتمد على وثائق ومعلومات علمية، إضافة إلى ما يستوجبه ذلك من جهد فني خاصّ على مستوى الأداء والتمثيل، فشخوص الحالات النفسية ليس لها سلوك طبيعي، بل تعيش ضمن شرطية حياتية خاصة لها مقوماتها وخصائصها، وهو الأمر الذي يكلف جهدا مضاعفا. و”بارانويا” مسلسل لبناني - سوري قدم محاولة جادة لتقديم عوارض مرض نفسي بمعالجة درامية تلفزيونية.
السيكودراما حالة معقدة من الدراما الإنسانية، تتلاقى وتتباعد فيها مصائر وشخصيات، وهي تنتهج في مساراتها خطا سرديا يجعلها بنيويا في وضع أكثر عمقا وتأثيرا على الجمهور من الأعمال السردية الكلاسيكية التي تقدمها الدراما العربية والعالمية.
إنها نوع يهتم بالذهاب عميقا داخل ثنايا النفس البشرية بحثا عن المزيد من الخبايا التي لا يزال العلم الإنساني بعيدا عن تفسيرها بشكل قطعي، وتشكل تجليات وسلوكيات يصعب فهمها وتبيانها.
تاريخيا، تناول الأدب العالمي موضوع السيكودراما أو المرض النفسي في العديد من الحالات، ربما كانت أشهرها شخصية “راسكولنكوف” في رواية “الجريمة والعقاب” للكاتب الروسي الشهير دوستويفسكي، فبعد أن يقتل الرجل جارته العجوز المرابية يدخل في نفق الحالات النفسية المأزومة والموغلة في العمق والألم، وتصبح حياته مزيجا من الخوف والقلق والعبث المضطرب الذي يوصله إلى حدود الهلوسة.
وبعيدا عن التناول الأدبي قدمت الدراما العالمية والعربية حالات عديدة من الدراما النفسية، بأشكال نجحت حينا وفشلت أحيانا أخرى. ويبدو أن صناع مسلسل “بارانويا”، وهو من إنتاج الشركة اللبنانية “سيدرز آرت برودكشن” (الصباح إخوان)، مهتمون بتقديم عمل درامي يحمل سمات الدراما السيكولوجية ومواصفات شكلانية خاصة.
وهو مسلسل مؤلف من خمس عشرة حلقة، تم بثها مؤخرا على منصات التواصل الاجتماعي، وينتمي إلى صيغة الأعمال العربية المشتركة، ويقدم شكلا يروج في عصرنا الراهن لدى شرائح واسعة من الجمهور العربي، وهي الصيغة التي تعتمد إيجاد العديد من المحاور الاجتماعية والعاطفية والنفسية التي تتقاطع معها عوالم بوليسية تكسب العمل الكثير من التشويق والإثارة.
وشاركت في المسلسل نخبة من الفنانين من لبنان وسوريا؛ فإلى جانب بطله الأساسي الممثل السوري قصي خولي شارك في التمثيل كل من ريتا حايك وسعيد سرحان وجنيد زين الدين وريم نصرالدين وسارة أبي كنعان وبيير داغر وداليدا خليل وفادي إبراهيم وعلي سكر وغيرهم.
بين الطب والسينما

أسامة عبيدالناصر: المشاهد شريك في الحكاية أكثر من كونه مجرد متلقّ
درس أسامة عبيدالناصر الطب في دمشق وعمل به، لكنه كان شغوفا بالسينما التي لم يبتعد عنها يوما، فدرسها من خلال دبلوم العلوم السينمائية وفنونها الذي تقيمه المؤسسة العامة للسينما في سوريا وكان من خريجيه، وقدم من خلاله العديد من الأفلام التي لفتت النظر إليه، خاصة فيلم “نخب ثاني” الذي حاز به على جائزتي أفضل فيلم وكذلك أفضل سيناريو في مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة بدمشق، وحاز بذات الفيلم على الجائزة الفضية للأفلام الروائية القصيرة في مهرجان شرم الشيخ بمصر.
وكانت محاولته الاحترافية الأولى من خلال فيلم “كواليس” الذي كان من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، وقدم فيه حكاية عن أحداث معاصرة في سوريا وعن حتمية امتلاك فرصة حياتية ثانية لأناس عاشوا ظروفا قاهرة في ظل انعكاسات حرب قاسية ألقت بثقلها على تفاصيل حيواتهم اليومية.
وكان حدثا مفاجئا للجمهور السوري أن يتلقى خبر وجود أسامة عبيدالناصر في سماء الدراما التلفزيونية بعد أن بدأ يتلمس نجاحاته في فن السينما. لكن الطبيب والسينمائي فعلها وقدم عمله التلفزيوني الأول في لبنان ومع شركة إنتاجية كبيرة وخرج بعمل من تأليفه وإخراجه وبمشاركة نجم فني كبير هو قصي خولي.
ويحاول المسلسل تقديم صيغة تذهب خطوات أبعد عن مثيلاتها وإلى مساحات جديدة في طرح درامي مختلف، فأحداث المسلسل متداخلة بين عدة أزمنة، والمتغيرات الداخلية والشكلية للشخصية الحدث عميقة وكبيرة، لكنها مدروسة ومتسقة وتؤدي وظيفتها في تقديم سيرورة الحكاية بشكل غامض ومشوق.
ثلاثة أشخاص تدور محاور المسلسل حولهم بشكل أساسي وهم: وزير (قصي خولي) ورواد (سرحان سعيد) وميلا (ريتا الحايك). يمتلك وزير خصوصية في هذه الثلاثية كونه يعيش في حالة نفسية مضطربة تجعله منتميا إلى أكثر من عصر زمني وذا ملامح أكثر من شخص واحد، وما زاد حالة التشويق رسوخا التقلبات التي عاشتها شخصية وزير مع محيطه. فهو موسيقي يمارس هوايته مع مجموعة من أصدقائه، يتحول إلى ما يشبه قائد مافيا ويسرق بنكا مع واحد وعشرين شخصا، تتم تصفيتهم جميعا على يدي صديق له (بيير داغر) الذي يفترض أنه احتفظ بالمال، والذي يتواجه لاحقا مع وزير حتى في سجنه.
يتهم وزير بقتل هؤلاء الأشخاص ويحاول إثبات براءته، وهو الأمر الذي يحاول الباحث في العلوم الجنائية رواد (سعيد سرحان) أن يقوم به لدى زيارة وزير في محبسه.
هنا تبرز علاقة جدلية غير واضحة المعالم بنيانها الغموض والتشويق بين وزير ورواد؛ بين السجين والباحث، حيث يتداخل القص الحكائي بينهما لتبدو قصة الطبيب التي عاشها في حياته السابقة مع عائلته جزءا من أحاديث وزير له.
يقول مؤلف ومخرج العمل أسامة عبيدالناصر عن ذلك لـ”العرب”، “لا شك في أن المسلسل يمكن وضعه خارج صندوق السائد في الدراما العربية المشتركة، وانطلاقاً من النص لم يكن ‘فورمات’ العلاقات العاطفية أو خلق الأبطال الشعبيين بوصلةً لبناء الورق، بكل صراحة وتواضع أعتقد أننا ذهبنا إلى ما هو أبعد من ذلك وقمنا بتقديم ‘الفورمات’ الخاص بنا على مستوى الشكل البصري والسردي للحكاية وحتى الشكل السمعي، وهذا ما تمت الإشارة إليه في أغلب المقالات النقدية التي توالت تباعاً خلال عرض العمل”.
ويضيف “أساس كل شيء وكل نتيجة في الدراما هو الاشتغال على الورق، وأعتقد أننا لم نذهب إلى الاستسهال وتقديم المشاهد المجانية بل اتجهنا إلى أن يصبح المشاهد شريكاً في سرد الحكاية وترتيب أحداثها أكثر من كونه مجرد متلقّ”.
ابتعاد المسلسل عن الشكل الكلاسيكي في ما قدمه، والعناصر المتداخلة زمنيّا وسرديا، جعلا منه مادة عصية على الفهم لدى شريحة واسعة من الجمهور، لكن ذلك يحمل من جانب آخر حالة من التشويق والإثارة التي تحبها شرائح جماهيرية عريضة وترى فيها نمطا جديدا تسير الدراما العربية فيه بخطى ثابتة وهو الشكل الذي يبدو أنه سيكون موجودا لسنوات طوال في حركة الدراما العربية لاحقا.
ويرى أسامة أنه “من حيث المبدأ كل عمل درامي يتم طرحه على فئات اجتماعية مختلفة وتنتمي إلى ثقافات متباينة معرض للانتقاد إيجاباً أو سلباً وهذا أمر طبيعي، برأيي أن الرهان الأكبر الذي قدمته مع شركة الصباح بتاريخها الكبير والمنتج الفني فراس العمري هو تقديم الشكل المختلف للعمل الفني ضمن شرط أساسي وهو الحفاظ على متعة الفرجة”.
ويتابع “بكل صراحة أعتقد أننا كسبنا هذا الرهان طالما أن الشريحة التي صُدِمت من البناء الدرامي لمسلسل ‘بارانويا’ قد استمرت في مشاهدة العمل حتى الحلقة الأخيرة لكشف الخبايا والأسرار التي طُرحت فيه”.
البطل والمشوار
يقدم الممثل السوري قصي خولي في مسلسل “بارانويا” دورا يتسم بالكثير من حس المغامرة، فقدم شخصية مركبة لا تسير في حالة واحدة مستقرة (المونوتون)، وهي شخصية غير أحادية النمط بل تتقلب في العديد من الحالات النفسية المتناقضة أحيانا. فالريبة التي هي جوهر مرض البارانويا ظهرت عند قصي بشكل تفصيلي في توترات شخصية وزير وعلاقاته مع محيطه، ونظراته المضطربة وانفعالاته غير المنضبطة وسلوكياته المتناقضة.
كل ذلك يؤشر على أن قدرا كبيرا من الجهد بذل لتقديم حالة نفسية معقدة. فوزير ليس شخصا طبيعيا بل ليس شخصا واحدا، هو مزيج من عدة أزمنة والعديد من الشخصيات التي كان قدرها أن تكون مؤثرة بقوة في محيط اجتماعي محدود، فكانت نتائج وجودها كارثية على وزير نفسه وعلى محيطه أيضا.
ويبدو أن درجة التواصل الإبداعي بين مؤلف ومخرج المسلسل أسامة عبيدالناصر وبطله الأول قصي خولي كانت في أعلى مستوياتها حتى ظهرت النتائج كما تمنينا.
ويؤكد عبيدالناصر في تصريحه لـ”العرب”، “حين أتحدث عن قصي خولي أتحدث عن الممثل بعيداً عن النجم الذي يعشقه الجمهور في الوطن العربي، قصي خولي كان شريكا بالمعنى الحرفي للكلمة، هو ممثل يعتني بأدق التفاصيل انطلاقاً من السيناريو المكتوب على الورق وصولا إلى لحظة الوقوف أمام الكاميرا، النقاشات بيننا لم تتوقف خلال فترة التحضير وحتى آخر يوم في التصوير، قصي يبحث عن المبررات الدرامية ويغوص فيها قبل أن يترجمها أداءً مبهراً أمام الكاميرا. كنت محاطاً بمجموعة من الممثلين المتميزين بمستوى عال من الثقافة الدرامية صنعت شراكات أخرى متميزة كالممثل سعيد سرحان وريتا حايك وريم نصرالدين وجنيد زين الدين وكذلك مدير التصوير المبدع كمال بونصار”.