انفجار المرفأ.. حين توقفت الحياة في لبنان

بيروت- ينظر اللبنانيون بريبة شديدة إلى إجراءات المسؤولين وتنصلهم من الكشف عن حقيقة الانفجار الهائل الذي وقع في مرفأ بيروت وتسبب في مقتل أكثر من مئتي شخص وألحق دمارا ضخما بالمدينة.
وعمقت تلك المأساة أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية ومالية كانت بدأت قبل أشهر حين وقع الانفجار في الرابع من أغسطس العام الماضي. وبعد مرور عام لا يزال البلد الصغير المنهك ينزف ولم يحاسب أحد على ما حصل، بل دخل في سجال واسع بين المسؤولين اللبنانيين حول مسألة رفع الحصانة من عدمها عن نواب وقيادات سياسية في الدولة.
وحوّل الانفجار الذي عزته السلطات إلى كمية ضخمة من نيترات الأمونيوم مخزنة من دون تدابير وقائية، بيروت إلى مدينة موت، دمّر أحياء فيها واقتلع أبواباً ونوافذ حتى في ضواحيها، وخلّف صدمة لم يشف اللبنانيون منها بعد.
وتبين، وفق تحقيقات إعلامية ومصادر مواكبة للتحقيق، أن مسؤولين سياسيين وأجهزة أمنية والجيش كانوا على علم بمخاطر وجود 2750 طناً من نيترات الأمونيوم مخزنة في المرفأ، لكنهم لم يحركوا ساكناً. وعندما قرر القضاء استدعاء بعض هؤلاء المسؤولين لاستجوابهم في القضية، ثارت ثائرة السياسيين، ورفضوا رفع الحصانة عن نواب تولوا مناصب وزارية، ومنح الإذن لاستجواب مسؤولين أمنيين.
وتقول المواطنة اللبنانية كارلن حتي كرم، التي فقدت زوجها شربل وشقيقها نجيب وابن عمها شربل في عداد عناصر فوج الإطفاء الذين كانوا يحاولون إخماد حريق سبق الانفجار، “خسرنا كل شيء.. توقفت حياتنا في الرابع من أغسطس”.
وتضيف كارلن “الحزن لا شيء يوقفه.. لكننا نسعى خلف الحقيقة والعدالة، علّنا نخفف شيئاً من الغضب في داخلنا”.
وحتى اليوم، لم يحصل اللبنانيون على أجوبة عن أسئلتهم: من أتى بهذه الكمية الضخمة من نيترات الأمونيوم؟ لماذا تُركت سبع سنوات في المرفأ، ومن كان يعلم بها وبمخاطرها؟ وما هي الشرارة التي أدت إلى الانفجار؟
وعيّن قاضي تحقيق أول في القضية، وقرر الادعاء على مسؤولين، فوقفت السياسة له بالمرصاد وتمّت تنحيته، بحجة عدم اتباعه الأصول القانونية. ويسير المحقق العدلي الذي خلفه طارق بيطار على خطاه اليوم، إلا أنّه لم يُعط بعد إذنا لملاحقة الأمنيين، ويعرقل البرلمان رفع الحصانة عن ثلاثة نواب كانوا يشغلون مناصب وزارية، وتم استدعاهم.
وانتقدت العديد من الدول من بينها فرنسا مسار التحقيق، وطالبت منظمات دولية بتشكيل بعثة تحقيق بإشراف الأمم المتحدة تدعم التحقيق المحلي، علها تنتشله من التدخلات السياسية، حيث وقع الانفجار في عزّ أزمة كوفيد – 19، ففاقم هموم اللبنانيين الذين كانوا غارقين أصلاً في أزمة اقتصادية غير مسبوقة.
وثار اللبنانيون ضد الطبقة السياسية التي يتهمونها بالفساد والعجز في أكتوبر عام 2019، وأسقطوا الحكومة آنذاك، وطالبوا بحكومة تكنوقراط. لكن الحكومة التي شكلت بعد عناء برئاسة حسان دياب لم تنجز شيئاً بسبب الانقسامات السياسية وتمسك الأحزاب والأطراف المختلفة بنفوذها، وقدمت الحكومة استقالتها إثر الغضب الشعبي الذي تفجر في وجهها بعد انفجار المرفأ.

اللبنانيون لم يحصلوا على أجوبة عن أسئلتهم: من أتى بهذه الكمية الضخمة من نيترات الأمونيوم؟ ومن كان يعلم بها وبمخاطرها؟
وتقول كارلن “الأشخاص أنفسهم هم سبب كل العلل.. قبل الانفجار، بدأ الانهيار الاقتصادي والانهيار الصحي، يجب أن يتحملوا مسؤولية ما قاموا به، ومسؤولية عدم إدارتهم للبلد”.
وبدأ لبنان مسيرته نحو الهاوية مع إعلان السلطات التوقف عن دفع ديونها الخارجية، ووضعت المصارف قيوداً على الودائع، وبدأت العملات الأجنبية تنفد من الأسواق والليرة اللبنانية تفقد قيمتها.
وضرب الانهيار الاقتصادي قطاعات مهترئة أساساً مثل الكهرباء، وتعثرت قطاعات أخرى، وصولاً إلى قطاع الصحة بعد تفشي فايروس كورونا ثم هجرة المئات من الأطباء والممرضين إلى الخارج بسبب الأزمة، ومؤخراً نقص الأجهزة الطبية والأدوية جراء التدهور المالي وعدم القدرة على فتح اعتمادات بالدولار.
وسرّعت كارثة مرفأ بيروت، أحد أكبر الانفجارات غير النووية في العالم الذي ذكّر بالقصف النووي على هيروشيما وناغازاكي، الانهيار في البلد.
وتقول الأستاذة المحاضرة في الجامعة الأميركية في بيروت ريما رنتيسي “اعتقدنا أننا وصلنا إلى الحضيض. فكيف بالوضع أن يسوء أكثر؟”.
وتضيف رنتيسي، “ما هو واضح لي، وما أذكّر نفسي به كل يوم، هو أن هؤلاء الذي يديرون البلد ليسوا سوى مجرمين وقتلة”، مضيفة “بعد الانفجار، فهمنا تماماً أنه طالما هم في السلطة، لن يتغير أي شيء”.
ومنذ الانفجار الذي قتل أكثر من مئتي شخص وتسبب في إصابة أكثر من ستة آلاف آخرين وشرد عشرات الآلاف، وهبت الدول لمساعدة لبنان لكن المساعدات كانت محددة الأهداف لدعم المتضررين من الانفجار.
وضاعف المجتمع الدولي الضغوط على السياسيين اللبنانيين لتشكيل حكومة وتنفيذ إصلاحات ضرورية يشترط تحقيقها لتقديم القروض والمساعدات للحكومة، لكن الإصلاحات لم تحصل.
وجمدت مفاوضات مع صندوق النقد الدولي بسبب عدم قدرة المسؤولين اللبنانيين على تقديم رؤية موحدة للوضع. ومنذ عام، تقود البلاد حكومة تصريف أعمال لعدم تمكن القوى السياسية من التوافق على حكومة جديدة. وكلّف قبل أيام نجيب ميقاتي بالمهمة الصعبة لتشكيل حكومة جديدة، بعد تنحي سعد الحريري الذي عجز عن ذلك على مدى أشهر طويلة.
وبعد سنة على وقوع الانفجار، لم يهدأ غضب اللبنانيين، لكنهم أيضاً يبدون متعبين. فالدعوات إلى الاحتجاج في الشارع لم تعد تجمع الكثيرين، كما حصل في تظاهرات أكتوبر 2019 ضد الطبقة الحاكمة، والتي علقت عليها آمال كبيرة لم تتحقق. وباتت الاحتجاجات محدودة وغالباً ما تشهد قطع طرقات وأعمال شغب.
وتقول إميلي، وهي شابة في الثانية والثلاثين وموظفة في مؤسسة حكومية، “كل ما أريده هو الهجرة. أريد أن أبعد أولادي من هنا، وأبني لهم مستقبلا”.
وفوق ذلك كله، يعاني لبنان من أزمة محروقات ونقص في مواد غذائية وطبية وأساسية، حيث تشهد معظم المناطق اليوم تقنيناً شديداً في الكهرباء يصل إلى 22 ساعة في اليوم، بينما لا يوجد ما يكفي من الوقود لتشغيل المولدات الخاصة.
وكل يوم تقريباً، يصدر تحذير من قطاع ما: المستشفيات تحذر من نفاد المحروقات اللازمة لتشغيل المولدات وسط انقطاع التيار الكهربائي ومخاطره على حياة المرضى، الصيدليات تنفذ إضرابات بسبب انقطاع الأدوية، المتاجر قد تضطر لإفراغ براداتها لعدم توفر الكهرباء والوقود.
وباتت حقائب القادمين من السفر لزيارة أهلهم أشبه بصيدليات متنقلة مليئة بالأدوية وحليب الأطفال وغيرها من الحاجات الأساسية.
وتقول رنتيسي “ندور في حلقة مفرغة. نصحو كل على يوم على ما هو أسوأ”.