اندثار "الأندرغراوند" في مصر لا يعني اختفاء العازفين على أوتار الأزمات

ظرفاء الغلابة.. فرقة موسيقية شبابية قادها انتقاد ارتفاع الأسعار إلى السجن.
الأحد 2022/05/15
العزف يجب أن لا يغضب الحكومة

أدى تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية في مصر إلى عودة أحد ألوان الموسيقى والطرب المعروفة بـ”الأندرغراوند” التي تتكون غالبيتها من شباب، وذاع صيتها منذ حوالي عشرة أعوام عندما عزفت على وتر الأوضاع السياسية الصاخبة، وظهرت العودة عقب التراجع الكبير مع بزوغ نجم فرقة غنائية بسيطة “ظرفاء الغلابة” لجأت إلى محاكاة الظروف الاجتماعية القاسية التي تعيشها شريحة كبيرة من المصريين.

القاهرة - لا يجد العديد من الشباب المغرمين بالموسيقى في مصر صعوبة في التعبير عن مواقفهم بطرق مختلفة، وقد يخرج من بين المعاناة والأزمات من هم يستطيعون عزف أعزب الألحان وصياغة كلمات تعبر عن الواقع يعيشون بين جنباته، وهو ما حدث مع فرقة مكونة من ثلاثة من الشباب أطلق عليهم “ظرفاء الغلابة” قرروا توظيف مواهبهم لتقديم فن مغاير، ربما يكون متواضعا في كلماته، إلا أن فحواه مليئة بالمعاني التي تؤكد وجود مساحة يمكن استغلالها للتعبير عن الوجدان العام.

يوحي اسم الفرقة والبساطة الظاهرة على وجوه أعضائها والآلات البدائية التي استخدمها الأعضاء أنها نابعة من قاع المجتمع وتعبر عن آلامه، والتي قد لا ينتبه إليها كثيرون، حيث جرى التنقيب عن محتوى يناسب أسلوبهم في الغناء، كفرقة شبابية ومجموعة محدودة قررت الاستفادة من التلقائية البادية على أصحابها.

حظيت الفرقة الشبابية برواج كبير بعد أن عبرت بسخرية لاذعة عن المعاناة الاقتصادية عبر مفردات يرددها البعض تجاوبا مع أزماتهم، غير أن أعضاء الفرقة الذين اشتهروا على مواقع التواصل الاجتماعي أخيرا لم تتح لهم الفرصة الفنية لاستكمال مشوارهم حيث جرى القبض عليهم من جانب أجهزة الأمن المصرية.

نشاط فطري للظرفاء

زين نصار: الأغنية أخطر أسلحة الفن ولها تأثير بالغ في الناس

أفرجت السلطات المصرية السبت، عن ثلاثة شخصيات، هم: عطية رشوان، وعنتر فهمي، وحمادة عيد، بعد نحو أسبوعين من القبض عليهم، عقب قيامهم بأداء أغنيات مستمدة من واقع الأزمات الاقتصادية التي تواجهها فئة كبيرة من المصريين، وحصدوا جماهيرية لافتة وشكلوا فرقتهم البسيطة (ظرفاء الغلابة) منذ نحو عامين.

قام الظرفاء بنشر مقطعين على تطبيق “تيك توك” تطرقا فيهما إلى ارتفاع الأسعار من خلال تأليف كلمات على لحن أغنية رومانسية شهيرة للفنان الراحل عبدالحليم حافظ بعنوان “حبك نار”.

قالوا في أغنيتهم المهجّنة وباللهجة العامية المصرية “الأسعار، الأسعار نار ليه بتغليها، ليه تخليها تقطم وسطي وأروح أنا فيها، فتش جيبي، فتش جيبي تشوف محفظتي ده أنا من حوستي حشيها ورق عشان أنفخ فيها”، وهي كلمات تسخر في المعنى النهائي من الحالة التي وصل لها البعض من المصريين.

وذكر المتهمون الشباب أمام النيابة أنهم أنشأوا قناة خاصة بهم بغرض الربح المادي من خلال المتابعات، وهم يعملون في حراسة العقارات، ولا علاقة لهم بالعمل السياسي، وكانت هذه كفيلة بالإفراج عنهم، لكن لا يزال مفعول الأغنية السابقة يتم تداوله بعد أن تعرضت للقرصنة.

حصلت القناة التي أنشأها الشباب منذ أن نشر أول مقطع في نهاية عام 2020 على أكثر من 410 آلاف إعجاب، وأكثر من 115 ألف متابع، وتزايد المعجبون والمشتركون كثيرا على صفحة “ظرفاء الغلابة” بعد إلقاء القبض عليهم.

نقطة القوة التي تمتع بها “ظرفاء الغلابة” أنهم قدموا محتوى بسيطا وخاليا من التعقيدات الفنية والإنتاجية ولم يشتبكوا عن عمد مع الحكومة في أمور سياسية واستغلوا خفة ظلهم واستثمروا أوجاع المجتمع وأزماته الاقتصادية في تحقيق رواج.

قالت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية الأحد، إن نيابة أمن الدولة “قررت إخلاء سبيل المتهمين الساخرين المعروفين بـ’ظرفاء الغلابة”.

☚ إلقاء القبض على أعضاء فرقة ظرفاء الغلابة تأكيد على أنه لن يسمح بعودة الفرق المحملة بأجندات سياسية
☚ إلقاء القبض على أعضاء فرقة ظرفاء الغلابة تأكيد على أنه لن يسمح بعودة الفرق المحملة بأجندات سياسية

وكان الشباب الثلاثة قد توجهوا طواعية في منتصف أبريل الماضي إلى مقر أمن الدولة بمحافظة أسيوط، جنوب القاهرة، ووجهت إليهم اتهامات بـ”الانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة”، في إشارة إلى جماعة الإخوان الموضوعة على قوائم الإرهاب في مصر، وأنها المحرض الأول لهم على أداء أغنيات ساخرة من الحكومة.

وتعاملت السلطات المصرية مع الفرقة الشبابية بحزم أو كأنها تمثل خطرا على الأمن العام أو تحرّض الناس على التخلي عن صمتهم، فترديد كلمات تحمل انتقادا للأوضاع الاقتصادية يعد جرما يستحق العقاب، لأنها تحتوي على كلمات خارج القاموس المتداول، والألحان التي صاغتها بفطرية شديدة لمست وترا حساسا، في وقت تعيش فيه شريحة من المصريين أزمات مركبة، فلم يجد “ظرفاء الغلابة” أمامهم سوى استخدام آلات بدائية تعكس معاناة أعضائها الحقيقية وتلفت انتباه من يستمعون إليهم.

أدى الإفراج عن أعضاء الفرقة المصرية إلى إحياء الآمال بشأن إمكانية أن يتم الاستثمار في أجواء الانفتاح السياسي التي شاعت في مصر وإمكانية أن يتم فتح المجال أمام الشباب وبعض الفرق الموسيقية لأداء أغان يمكن أن تكون قريبة من نبض الناس، من زاوية اجتماعية على الأقل كنوع من التنفيس السياسي.

ويقول متابعون إن إلقاء القبض على أعضاء الفرقة ثم الإفراج عنهم أدى رسالة تؤكد أن المجال العام محكوم بضوابط ولن يسمح بعودة الفرق المحملة بأجندات سياسية.

تلجأ فئة من الشباب إلى ألوان مختلفة للتعبير عن مواقفها، من بينها الموسيقى التي تحمل ألحانا وكلمات تعبر عن تمرد على الأوضاع العامة، بعضها يختار لونه عن قصد ويكون غالبا محملا بأهداف سياسية، والبعض يتبنى ذلك كنوع من التمرد، وهناك فئة تلجأ إلى السخرية التلقائية، وهي سمة يعرف بها المصريون على مدار تاريخهم، للدرجة التي جرى إجراء دراسات على النكات التي تتردد في الشارع في عصور مختلفة ووجد أنها وثيقة الصلة بالمجتمع وما يدور فيه من تطورات سياسية.

كذلك الحال بالنسبة إلى الأغاني التي تنطوي على مضمون سياسي، وتظهر غالبا في موسيقى الشباب الذي يحمل داخله شحنات كبيرة من الغضب لا يجد وسيلة للتعبير عنها سوى هذه الوسيلة، وهو ما انتبهت إليه الحكومة المصرية في السنوات الأخيرة، وتكاد تكون قامت بتحجيم الجزء الأعظم في الفنون المتمردة.

الصعود والهبوط

☚ فرقة كايروكي أسهمت في رواج الطابع السياسي
☚ فرقة كايروكي أسهمت في رواج الطابع السياسي

مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وعدم القدرة على السيطرة تماما على الفرق الشبابية بدأت تتسرب موسيقى مصحوبة بكلمات لا تخلو من التصاق بالمجتمع وما يموج فيه من أزمات، خاصة الاقتصادية التي زادت وتيرتها بصورة واضحة يصعب تجاهلها من قبل الشباب، ويصعب فرملتها من جانب السلطات.

راجت في مصر عقب ثورة يناير 2011 العديد من الفرق الموسيقية التي رددت أغنيات لها علاقة بصميم الأوضاع العامة في مصر، وحظيت بشعبية في أوساط الشباب وحققت انتشارا واسعا خلال فترة السيولة السياسية التي سادت في البلاد.

من الفرق الموسيقية التي اشتهرت عقب ثورة يناير، وسط البلد، لايك جيلي، وكايروكي، حاجة تانية خالص، وعمدان نور، وفوق السطوح، وصوت الشارع، وبلاك تيما، وع السلم، ومسار إجباري، شارموفرز.

أسهمت فرقة كايروكي في رواج الطابع السياسي لمطربي “الأندرغراوند”، وحظي أحد أعضائها، وهو أمير عيد، بانتقادات حادة في رمضان الماضي عقب مشاركته في إعلانات تروج لإحدى الجمعيات الخيرية التي ترعاها الحكومة، إذ اعتبرت مساهمته الرمزية إشارة على تخليه عما عرف عنه من “تمرد فني وسياسي” واتخذت كدليل على تراجعه عن قناعاته السابقة بالأغاني التي قدمها وحوت محتوى سياسيا لاذعا.

كان رواج هذه الفرق له علاقة مباشرة بالتحولات التي ظهرت في مصر بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، وأعطيت الفرصة لكثير من التيارات للتعبير عن رؤاهم بطرق مختلفة، من بينها الموسيقى والأغاني.

موسيقى مصحوبة بكلمات لا تخلو من التصاق بالأزمات التي زادت وتيرتها بدأت تتسرب في المجتمع المصري وتلقى رواجا

والآن مصر على أعتاب مرحلة جديدة من الإصلاحات، إذا نجح الحوار بين الحكومة والقوى السياسية في تطبيق معايير جادة في هذه المسألة قد تهد الفرق الشبابية رواجا وتسترد فرق “الأندرغراوند” لونها السياسي وعافيتها في محاكات الواقع المجتمعي.

انتشرت العديد من فرق “الأندرغراوند” في مصر، والتي لجأت إلى الاكتفاء الذاتي وعدم الرضوخ للإنتاج بتكاليف باهظة، واتخذت من وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة لتوصيل أصواتها إلى مجتمع تجاوب معها ومنحها انتشارا كبيرا.

تصاعد الحديث عن فرقة “ظرفاء الغلابة” قبل أيام أعاد إلى الأذهان ما جرى مع عديد من الفرق التي غابت عن المشهد العام، ولا يتبقى منها سوى عدد قليل يتسلل من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ويكون في معظمه حذرا خوفا من ملاحقة سلطات باتت مدججة بترسانة قوانين تستخدم كسيف مسلط على رقاب من يخرجون عنها، أو يمارسون ألوانا مرفوضة من الأغاني ذات المحتوى الذي يوجه انتقادات للحكومة.

وأكد أستاذ النقد الموسيقي بالمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون في مصر زين نصار، أن استغلال الأغنية في التوظيف السياسي خطر على الأمن والمجتمع، ولو كانت تحمل عبارات نقدية لأن الأغنية أخطر أسلحة الفن ولها تأثير بالغ في الناس، وأسهل أنواع الفنون التي تجذب الجمهور وتتردد على ألسنتهم باستمرار.

وأضاف لـ”العرب” أن منع الأغنيات التي تحمل أهدافا سياسية يزيد من معدلات مشاهداتها وفقا لقاعدة الممنوع مرغوب، “وكان لا بد من وقفة ضد الفرق الشعبية التي تغني بطريقة بدائية وتتطرق إلى قضايا حساسة لأن الصمت على هؤلاء يفتح الباب أمام الكثير من هواة الغناء للتمادي في التوظيف السياسي للأغنية، وتصبح الأمور مستباحة وتتحول من حالة فردية إلى ظاهرة ينهار بعدها الذوق العام للغناء”.

وأشار إلى أن استثمار الأغنية السياسية من جانب قوى معارضة دفع السلطات المصرية لعدم التساهل مع أصحابها سواء أكانوا بسطاء أم هواة، ولا مانع من ملامسة هموم الناس بطريقة هادفة تخاطب المشاعر والوجدان بحس موسيقي رفيع وكلمات وألحان راقية، وما يحدث في الساحة الغنائية “انفلات غير مسبوق ولا علاقة له بالحرية، فهناك محاولات لدس السم في العسل واللعب على وتر ما يطلبه الجمهور”.

يربط البعض من النقاد بين اندثار فرق “الأندرغراوند” التي تعتني بالمضمون السياسي والاجتماعي ورواج أغاني المهرجانات الشبابية التي تهتم بالأغاني الشعبية وتدغدغ عواطف الناس بلا معنى سياسي كنوع من سد الفراغ وإلهاء الشارع.

ويقول هؤلاء النقاد إن أغاني المهرجانات لا تعبر عن حالة فنية في مصر بقدر ما تعكس رغبة سياسية في سد الفراغ كي لا تجد الفرق المسيّسة مساحة لتتحرك فيها، لكن الحصيلة التي وصلت إليها المهرجانات لا تشير إلى قدرتها على المنافسة، وسوف يظل البعض ينجذب إلى من يعبرون عن أوجاهم الحقيقية بصدق.

الأندرغراوند

17