انتهاء العصر الذهبي للسياسة الجماهيرية

واشنطن – الحركات السياسية الجماهيرية التي كانت سابقا تسود أوروبا بدأت تتلاشى بسرعة، والأحزاب القومية الشعبوية والمبتدئة تحلّ محلّها، ومرشحة لأن تبقى لسنوات قادمة، في ظاهرة تتجاوز الرقعة الأوروبية وتصل إلى أميركا الجنوبية متجسّدة في أحدث نماذجها في البرازيل، حيث انتخب أول رئيس يميني متطرف منذ انتهاء الدكتاتورية قبل أكثر من 30 عاما.
ويؤشر التقلّب السياسي الحالي الذي يكتسح العالم، من شرقه إلى غربه، وفق قراءة لماثيو غود واين، في مجلة فورين بوليسي، بداية عهد جديد لحراك وتغيير كبيرين، حيث دخلت أوروبا والولايات المتحدة وأنظمة ديمقراطية أخرى عصر عدم التحزّب، مع أفول نجم الأحزاب التقليدية.
يرى غود واين أن تمزّق الأنظمة السياسية وصعود الأحزاب الشعبوية وزيادة نسب التذبذب الانتخابي والضغط المتزايد على الأحزاب المهيمنة سابقا، لم يعد أمرا مستغربا بل أصبح الوضع العادي الجديد، مشيرا إلى أن هذه العملية كانت تعتمل لعقود وستتواصل وسيكون لها تأثيرات عميقة على السياسة، وهي آثار قد تكون أقوى مما نخشاه اليوم.
ابتعد الغرب كثيرا عن العصر الذهبي للسياسة الجماهيرية التي امتدت من بداية القرن العشرين إلى عقد التسعينات. وجدت دائما ظاهرة المتمردين الشعبويين وتقلبات دورية، لكن العصر الذهبي كان عموما يتميّز بروابط قوية بين المواطنين والأحزاب التقليدية، مثل حزب الديمقراطيين المسيحيين في ألمانيا أو الاشتراكيين في فرنسا، وكلاهما الآن يسير في اتجاه انحدار سريع. تتضمن العوامل المربكة الأساسية انزياح اليسار بعيدا عن العمال ليركز على الطبقة المتوسطة ذات التوجه الليبرالي ثقافيا والحائزة على الشهائد، والطريقة التي شقت بها الصراعات القيمية الجديدة طريقها عبر الناخبين التقليديين، وكيف زاد في حدة ذلك بروز قضايا جديدة مثل الهجرة التي لا تنسجم تماما مع البنية الكلاسيكية التي تقوم على المقابلة بين اليسار واليمين.
الأحزاب التقليدية كانت بطيئة جدا في التأقلم مع الواقع الجديد أو غير قادرة على التوفيق بين الانقسامات القيمية غير القابلة للتوفيق بينها داخل ناخبيها.
وهذه الظاهرة لا تطال فقط الدول الغربية، بل أيضا، تشمل مختلف دول العالم، وإن كان بتفاوت، من البلدان العربية إلى أميركا اللاتينية، حيث يسود قلق مجتمعي يختلف في بعض من مظاهره وطريقة التعبير عنه، إلا أنه يلتقي عند أسباب كبرى متشابهة، كالأزمات الاقتصادية وأزمات الهجرة المرتبطة بالصراعات وتراجع اليسار وتهلهل خطاب الأحزاب التقليدية وفشلها في تقديم بدائل أو حلول ومواكبة التطورات.
وبالعودة إلى المثال الأوروبي يشير غود واين إلى أنه في عقد فقط، بين 2004 و2015، انحدر نصيب الأحزاب التقليدية السائدة في أوروبا من الأصوات في المتوسط ما بنسبة 14 نقطة ليصل 72 بالمئة. وفي الأثناء فإن النصيب من الأصوات الذي يذهب إلى المنافسين الشعبويين الجدد، سواء من جهة اليسار أو اليمين، أكثر من تضاعف ليصل 23 بالمئة.
ويشير إلا أنه عندما سألت مؤسسة ايبسوس موري المختصة في دراسة السوق هل يشعرون بأن “الأحزاب والسياسيين التقليديين” يهتمون بالناس مثلهم، كانت الأجوبة في أوروبا تبعث على القلق إذ شعر 47 بالمئة من الناس في ألمانيا، و51 بالمئة في إيطاليا، و57 بالمئة في بريطانيا، و64 بالمئة في المجر، و67 بالمئة في فرنسا بأنه “تم التخلي عنهم من قبل الحرس القديم”.
وسجل اليسار الوسطي خسائر قياسية، وفي العديد من الأنظمة السياسية وصل مجموع نصيب الأصوات للأحزاب التقليدية السائدة إلى مستويات متدنية قياسية. في ألمانيا هبط الديمقراطيون الاشتراكيون في العام الماضي إلى أسوأ نتيجة حققوها منذ سنة 1933، وفي السويد نزلوا إلى أدنى مستوى لهم منذ 1908.
وبالنظر إلى بقاع أخرى من العالم، لا يبدو أن الأمر يختلف كثيرا، ففي البرازيل حصل بولسونارو، الذي سيتولى مهامه في الأول من يناير 2019، على تفويض واضح من الناخبين في الاقتراع بنيله 55 بالمئة من الأصوات في مواجهة خصمه اليساري فرناندو حداد الذي حصل على 45 بالمئة من الأصوات.
وتؤشر خطابات بولسونارو الأولى، (ثلاثة خطابات مساء انتخابه)، إلى أنه ستكون هناك قطيعة مع كل ما قام به حزب العمّال الذي فاز في الانتخابات الرئاسية الأربعة الأخيرة.
تمزّق الأنظمة السياسية وصعود الأحزاب الشعبوية وزيادة نسب التذبذب الانتخابي والضغط المتزايد على الأحزاب المهيمنة سابقا
ويقول ماوريسيو سانتورو، الباحث في العلوم السياسية بجامعة ريو دي جانيرو، إن صعود نجم اليمين المتطرف في البرازيل يعكس اتجاها عالميا رغم أنه في الوقت نفسه له سمات خاصة بالدولة الواقعة في أميركا الجنوبية.
ويحذّر غود واين من التقليل من هذه الظواهر الصاعدة، مشيرا إلى أن اعتبارها احتجاجا عابرا مغالطة، فالدوافع نحوها صعودها عميقة الجذور. فقد جلبت ثورة العولمة عهدا جديدا تمحورت الصراعات السياسية فيه بين ذوي النزعة الطائفية والنزعة الكونية حول قضايا جديدة وأكثر قوة بكثير. وأصبح على رأس جدول الأعمال قضايا من مثل الهجرة واللاجئين والإسلام وتراجع قوة البلد وسط الاندماج فوق الوطني والمساواة بين الجنسين والتحديات أمام العائلة التقليدية.
كانت الأحزاب التقليدية بطيئة جدا في التأقلم مع الواقع الجديد أو غير قادرة على التوفيق بين الانقسامات القيمية غير القابلة للتوفيق بينها داخل ناخبيها.
وبالتالي برزت حركات سياسية جديدة وأكثر مرونة لتمزق أجزاء من الأحزاب القديمة المهيمنة، أكان الخضر يلاحقون ناخبي الطبقة الوسطى في ألمانيا أو الشعبويون الوطنيون يبحثون عن الدعم من الطبقة العاملة الأكثر محافظة اجتماعية.
وكل هذا يعني أنه من الصعب أكثر على أوروبا الحصول على الحكومات القوية والمستقرّة والمتماسكة أيديولوجيّا التي هي شرط مسبق للتعامل بشكل ناجع مع قائمة متزايدة من التحديات: كيفية الرد على تنامي الدعم للشعبوية القومية، كيفية إيجاد حل مستدام لأزمة اللاجئين، كيفية إيجاد حل للتفاوت الاقتصادي الذي يستمر في زيادة التوترات بين الشمال والجنوب، وبشكل أوسع، كيفية التوصل إلى نموذج من الاندماج يمكنه إرضاء الجناحين الليبرالي والمحافظ (الذي يزداد قوة) في أوروبا في الآن نفسه.