انتصر البرهان أو هُزم.. الجيش السوداني يواجه خطرا داهما

كثافة الفصائل المسلحة تصعب مهمة دمجها في المؤسسة العسكرية.
الأحد 2023/04/30
تحركات حميدتي والدعم السريع تربك الجيش السوداني

المعركة مع قوات الدعم السريع، وبقطع النظر عن خلفيتها السياسية، تمثل اختبارا قويا لقدرات الجيش السوداني، خاصة أنها قد تجره إلى الإنهاك في ظل اعتماد الدعم السريع على الكر والفر، وهو أسلوب لا يحسمه القصف الجوي ولا البيانات السياسية.

لا أحد يستطيع الجزم بأن قائد الجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان حسم سيطرته على الأمور في الخرطوم وغرب دارفور، ولا أحد يستطيع القول إن قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) حقق ما كان يصبو إليه من أهداف سياسية أو استقطاب قيادات كبيرة في الجيش إليه، كل طرف يتحدث عن تفوق له وانكسار للطرف الآخر بصورة تصيب المراقبين بالحيرة.

وتشير طبيعة الحرب الراهنة إلى أن المؤسسة العسكرية العريقة في السودان ستخرج من هذه المعركة منهكة، لأن صمود قوات الدعم السريع أمامها على مدار أكثر من أسبوعين يؤكد أن هناك معارك استنزاف قد يطول أمدها، ما يعني أن جيشا عربيا جديدا يمكن أن يدخل في زمرة جيوش عديدة تفككت في العراق وليبيا واليمن، أو كادت وتترنح كما هو حاصل في سوريا ولبنان.

وقد تصبح مشكلة السودان أعمق بكثير من هذه الدول، لأنه يعج بالكثير من الحركات المسلحة في الغرب والجنوب، بعضها وقّع اتفاق سلام مع الخرطوم وبعضها لا يزال بعيدا، وجميعها تمتلك جيوشا شبه نظامية، من وقّعت أو رفضت، ما يعني أن الدولة ذاتها ربما تواجه تفسخا إذا لم يتم إنهاء معركة الجيش والدعم السريع بطريقة لا غالب ولا مغلوب، إذ تعوم البلاد فوق موزاييك عسكري واجتماعي وسياسي.

وتأتي مواجهة الجيش السوداني لشبح الإنهاك من احتدام المواجهات بينه وبين قوات الدعم السريع التي تجيد عمليات الكر والفر وتتقن حروب المدن والشوارع، ما جعلها تصمد أمام قوات الجيش التي عجزت في أحيان كثيرة عن استخدام معداتها الثقيلة من دبابات وصواريخ، ولم يحقق سلاح الجو درجة عالية من الدقة، لأن جزءا كبيرا من الاشتباكات يدور في العاصمة بمدنها الثلاث: الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري.

◙ لا أحد يستطيع الجزم بأن البرهان حسم سيطرته على الأمور في الخرطوم وغرب دارفور
لا أحد يستطيع الجزم بأن البرهان حسم سيطرته على الأمور في الخرطوم وغرب دارفور

كما أن الحديث الذي ردّده حميدتي بشأن استمرار قيادات محسوبة على نظام الرئيس السابق عمر البشير وامتلاكها عقيدة أيديولوجية إسلامية في صفوف الجيش بدأت تتوافر لها علامات تعزز منها عقب بيان القيادي السابق في حزب المؤتمر الوطني المنحل أحمد هارون، والذي فر مع آخرين من سجن كوبر قبل أيام، وأكد دعمه للجيش وإدانته للدعم السريع، وقدرته على حماية نفسه.

وعلى الرغم من نفي الجنرال البرهان التكهنات المتمثلة في كثافة القيادات التي تدين بولاء للبشير داخل الجيش، فإن ظهور هارون والكشف عن تصريحات لقيادات سابقة في المؤتمر الوطني تتوعد باستخدام سياسة الأرض المحروقة ومنع تهميشها، يشيران إلى أن هناك تيارين يتصارعان سرا داخل المؤسسة العسكرية، أحدهما وطني ومنضبط، والآخر يريد الحفاظ على عباءة نظام البشير.

قد تكون هذه الوضعية من الحالات النادرة في الجيش السوداني، والذي قام قادته بانقلابات عديدة في السبعين عاما الماضية، منها ما نجح ومنها ما أخفق، غير أن ولاء العناصر الرئيسية في المؤسسة العسكرية كان للقيادة المركزية، بصرف النظر عن ميولها السياسية، سواء أكانت بعثية أو ناصرية أو إسلامية.

يمكن أن تكون هذه النتيجة مطمئنة لحال الجيش بعد انتهاء معركته مع قوات الدعم السريع، فوزا أو هزيمة، لكن ما يجري حاليا يدخل في باب معارك كسر العظم، فالطرفان، البرهان وحميدتي، لم يعد بمقدورهما التعايش معا، وهو ما يفتح المجال أمام نوع من الانتقام المبالغ فيه، والذي ستخرج منه المؤسسة العسكرية خاسرة إذا لم يتم إيجاد صيغة تحفظ ماء وجه قيادتي الجيش والدعم السريع.

ويمثل كسر شوكة الجيش خسارة فادحة للسودان والأمن في البحر الأحمر، لأنه أحد أهم ضمانات الحفاظ على وحدة الدولة واستقرارها، كما يمثل سحق قوات الدعم السريع وإذلالها خسارة من نوع آخر، حيث تؤدي إلى إذكاء نيران الحرب مجددا في دارفور، عندما يعود ما تبقى منها إلى التمترس في خنادق دارفور كحاضنة اجتماعية تقليدية لعناصرها، فقد تشكلت نواتها فيها، ولها تحالفات قبلية كبيرة داخل ولاياتها الخمس.

تُدخل الفرضية الأولى (كسر الجيش) السودان إلى عصر الحركات المسلحة والميليشيات والمرتزقة النشط في المنطقة ومعها طيف واسع من التنظيمات المتطرفة، وتتخلى قوات الدفاع الشعبي الجهادية أيضا التي شكلها البشير للدفاع عن نظامه ومشروعه الإسلامي عن كمونها، بالتالي تتصاعد حدة المعارك في الخرطوم التي ظلت بعيدة على مدار العقود الماضية عن مسرح العمليات العسكرية المباشرة.

وفي المرة الوحيدة التي كادت تتعرض لغزو من إحدى الجماعات المسلحة نجح الجيش السوداني في قطع الطريق على حركة العدل والمساواة التي قاد زعيمها السابق خليل إبراهيم عشرات القوافل من دارفور حتى وصل إلى مشارف أم درمان عام 2008، وأراد مناطحة البشير داخل الملعب الرئيسي وهو العاصمة.

في جميع الحروب التي خاضها السودان، كانت الخرطوم بعيدة دوما، لذلك فمعركة الجيش مع قوات الدعم السريع الحالية من المحطات المهمة في تاريخ هذا البلد، لأن فوز أحدهما أو خسارته لن يؤديا إلى الاستقرار، فنتيجة الحرب سوف تصطحب معها تداعيات متباينة، فالمنتصر من الجانبين جنرال لن يقبل أن يذهب ما يعتبره تضحيات سدى، وسيكون الرقم الرئيسي في معادلة السلطة، ومن خلفه جيش منهك.

وتُدخل الفرضية الثانية (سحق الدعم السريع) إقليم دارفور في أتون حرب أشد ضراوة مما كانت عليه الحرب الأولى التي هدأت بعد سقوط مئات الآلاف من الضحايا واحتدام أزمة اللاجئين والنازحين، وكانت معادلتها واضحة إلى حد كبير، حيث قاتل الجيش ومعه الدعم السريع حركات تنتمي إلى مناطق جهوية مختلفة، بينما مع الفرضية الثانية
قد تتوزع الحركات المسلحة على الجانبين وقد يبقى جزء مستقل بعيد عن كليهما.

السودان يعج بالكثير من الحركات المسلحة في الغرب والجنوب، بعضها وقّع اتفاق سلام مع الخرطوم وبعضها لا يزال بعيدا، وجميعها تمتلك جيوشا شبه نظامية،

أخطر ما تجلبه هذه الفرضية هو أن التدخلات الخارجية الكبيرة، مع تصاعد أدوار المرتزقة في المنطقة، والجغرافيا القبلية الممتدة والمتشابكة، ونمو ظاهرة قوات فاغنر الروسية في السودان ودول مجاورة له، ما يحوّل المعركة في دارفور إلى صراع خفي على النفوذ بين قوى دولية كبرى، يزداد فيها الجيش السوداني تضررا وتشتتا وإنهاكا.

دخلت الحرب بين الجيش والدعم السريع في الخرطوم طورا متقدما في تطبيق معايير المعركة الصفرية الشهيرة (مكاسب طرف خسائر للآخر) والعكس صحيح، بينما الخطاب الذي تتبناه قيادة كل طرف يؤكد أن الخاسر الأكبر فيها هو الجيش والسودان من بعده، وبدلا من حصر الخلاف حول آليات دمج الثانية في الأول سوف يزداد الأمر تعقيدا، بما يعرض المؤسسة العسكرية المنضبطة إلى الخطر.

يقود تعرض هذه المؤسسة للخطر إلى الدخول في سيناريوهات أشد خطورة، ففي ظل تشكل السودان من تركيبة متعددة الألوان والأعراق والجهويات قد تحدث انقسامات عنقودية تفضي به إلى التفتت، لأن التعايش سيزداد صعوبة، وتجد كل طائفة أو حركة في الدفاع عن مصالحها المباشرة مخرجا لها، فغياب الجيش النظامي يمنح الآخرين فرصة للاحتماء بولاءات إقليمية أو أيديولوجية ضيقة على حساب الولاءات الوطنية.

4