انتخابات غير حاسمة تدفع إسبانيا إلى عدم الاستقرار السياسي

واجه الإسبان حالة من الجمود السياسي الاثنين بعد أن فشل اليمين في تحقيق نصر حاسم متوقع ولم يظهر فائز واضح في الانتخابات العامة في البلاد. ولم تترك نتائج تصويت الأحد لكتلة اليسار أو اليمين طريقا سهلا لتشكيل الحكومة.
مدريد - بدأ كلّ من رئيس الوزراء الاشتراكي بيدرو سانشيز وخصمه المحافظ ألبرتو نونييس فيخو الذي نال حزبه أكثرية مقاعد البرلمان في الانتخابات التي أجريت الأحد في إسبانيا، مداولات الاثنين لتشكيل تحالفات تتيح لأحدهما تولي السلطة وتجنّب اقتراع جديد.
واستطاع سانشيز أن يحدّ من مكاسب المعارضة اليمينيّة وأن يحتفظ، خلافا لكلّ التوقعات، بفرصة للبقاء في السلطة قد تُوفّرها له لعبة التحالفات.
ونال الحزب الشعبي بزعامة فيخو 136 مقعدا، بينما نال حزب “فوكس” اليميني المتطرف، حليفه الوحيد المحتمل في أي ائتلاف حكومي، 33 مقعدا. وبذلك، جمع الحزبان 169 مقعدا برلمانيا، أي أقل من الغالبية المطلقة (176 من أصل إجمالي المقاعد البالغ 350).
وحصد الحزب الاشتراكي بزعامة سانشيز 122 مقعدا، مقابل 31 لحليفه حزب سومر من أقصى اليسار.
وفي وقت متأخر ليل الأحد، تجمّع ناشطون اشتراكيون أمام مقر الحزب مرددين شعار “لن يمرّوا” المناهض للفاشيين وعرف في حقبة الحرب الأهلية (1936 – 1939). وأكد سانشيز أمامهم قدرته على الاستمرار في تولّي السلطة.
فيخو يرغب في تولي السلطة من موقع الأقلية. لكن ذلك يحتاج إلى أن يمتنع الاشتراكيون عن تصويت منح الثقة
وقال رئيس الوزراء إنّ “الكتلة الرجعيّة للحزب الشعبي ولحزب فوكس هُزمت”. وأضاف “نحن الذين نريد أن تُواصِل إسبانيا التقدّم، عددنا أكبر بكثير”.
ومع نيله 153 مقعدا برلمانيا، سيحتاج تحالف الحزب الاشتراكي وحزب سومر الى دعم تشكيلات إقليمية مختلفة مثل “إي آر سي” الكاتالونية أو “بيلدو” الباسكية التي تعد بمثابة وريثة الواجهة السياسية لتنظيم “إيتا”.
إلا أنه سيحتاج أيضا إلى امتناع عدد من الأحزاب الصغيرة عن المشاركة في جلسة التصويت، بعدما توعدت هذه التشكيلات بأنها لن تسمح لسانشيز بالاستمرار في السلطة من دون مقابل.
وفي حال توافرت كل العناصر، يمكن لسانشيز أن يحصل على 172 نائبا مواليا له في البرلمان، أي أكثر مما سيتوافر لزعيم الحزب الشعبي، ما سيكون كافيا في دورة ثانية من التصويت على تسمية رئيس الحكومة، إذ تكفيه غالبية بسيطة للخروج فائزا.
وفي حال لم يتمّ ذلك، ستجد إسبانيا نفسها بعد إجرائها أربع انتخابات عامة بين عامي 2015 و2019، أمام أزمة انسداد في الأفق السياسي، ويرجح أن تكون مرغمة على الدعوة إلى دورة اقتراع جديدة من أجل الخروج منها.
ومع خروجه متفوقا نسبيا في انتخابات الأحد، شدد نونييس فيخو على أحقية اليمين بتشكيل الحكومة المقبلة. وقال أمام مقر الحزب في مدريد إن الحزب الشعبي “فاز في الانتخابات”، مضيفا “بصفتي مرشح الحزب الذي حصل على أكبر عدد من الأصوات، أعتقد أن من واجبي محاولة تشكيل حكومة”.
وأكد فيخو أنه سيشرع “في حوار” مع القوى الممثّلة في البرلمان من أجل “تشكيل حكومة”، داعيا الاشتراكيين إلى عدم عرقلة جهوده.
وتابع “سنتحدث كثيرا خلال الأيام والأسابيع المقبلة”، مشددا في الوقت عينه على أن المرحلة “لن تكون سهلة”.
مرحلة غير سهلة
في ظل عدم حصوله و”فوكس” على الغالبية المطلقة، يرغب فيخو في تولي السلطة من موقع الأقلية. لكن لتحقيق ذلك، يحتاج الى أن يمتنع الاشتراكيون عن المشاركة في تصويت منح الثقة في البرلمان، هو ما سبق لهؤلاء التأكيد أنهم لا يعتزمون القيام به.
وجعل سانشيز (51 عاما) الذي دفعته هزيمة اليسار في انتخابات محلية أواخر مايو للدعوة إلى هذه الانتخابات العامة المبكرة، من التحذير من وصول اليمين المتطرف إلى السلطة محور حملته الانتخابية.
وسجّلت هذه الإستراتيجية نجاحا في عملية الاقتراع، إذ ناهزت نسبة المشاركة 70 في المئة، أي بزيادة 3.5 في المئة عن الانتخابات الأخيرة التي أجريت في نوفمبر 2019.
وأثارت انتخابات 2023 اهتماما واسعا خارج إسبانيا بسبب احتمال وصول تحالف يميني يضم الحزب الشعبي و”فوكس” إلى السلطة في بلد أوروبي يعدّ رائدا في مجال حقوق النساء ومجتمع الميم.
وكان من شأن سيناريو كهذا، في حال حصوله، أن يعيد اليمين المتطرف إلى السلطة في إسبانيا للمرة الأولى منذ نهاية دكتاتورية فرانكو عام 1975.
ومع اقتراب الانتخابات الأوروبية المقررة في 2024، كان لفوز اليمين، وربما مشاركة اليمين المتطرف في الحكم في رابع اقتصاد في منطقة اليورو، بعد انتصاره في إيطاليا العام الماضي، ضربة قاسية لأحزاب اليسار في القارة. وستكون لذلك رمزية كبيرة في ظل تولي إسبانيا حاليا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي.
الأزمات الماضية
انتهت الانتخابات العامة المبكرة التي أجرتها إسبانيا الأحد بلا غالبية كافية تتيح للاشتراكيين أو المحافظين تشكيل حكومة بمفردهم، ما قد يعيد البلاد إلى فترة من عدم الاستقرار السياسي خبرتها مرارا في الأعوام الماضية، مع أربعة انتخابات عامة في أربعة أعوام.
ومثّلت الانتخابات العامة التي أجريت في 20 ديسمبر 2015 نهاية حقبة الثنائية بين الحزب الشعبي المحافظ بزعامة ماريانو راخوي الذي حلّ في الطليعة لكنه خسر غالبيته المطلقة، والحزب الاشتراكي بزعامة رئيس الوزراء الحالي بيدرو سانشيز.
وكسب حزبا بوديموس اليساري الراديكالي وكويدادانوس من اليمين الوسط حضورا قويا في برلمان لم يعرف هذا الحد من الانقسام منذ نهاية حقبة دكتاتورية فرانكو في العام 1975.
وفي ظل استحالة تشكيل ائتلاف حكومي، تمت الدعوة إلى انتخابات جديدة في 26 يونيو 2016 تقدّم بنتيجتها الحزب الشعبي بشكل طفيف، لكن الجمود السياسي استمر أشهرا.
وفي نهاية المطاف، عاد ماريانو راخوي إلى رئاسة الحكومة في 29 أكتوبر، مستفيدا من أصوات كويدادانوس وامتناع عدد من نواب الحزب الاشتراكي عن التصويت.
وجاء ذلك بعدما دفع هؤلاء النواب سانشيز المعارض لوصول راخوي للحكم أيا يكن الثمن، للاستقالة من الحزب الاشتراكي بعد تحميله مسؤولية أسوأ هزيمة انتخابية يتلقّونها في 40 عاما.
فيخو يؤكد أنه سيشرع في حوار مع القوى الممثّلة في البرلمان من أجل تشكيل حكومة، داعيا الاشتراكيين إلى عدم عرقلة جهوده
وشهد 24 مايو 2018 إدانة الحزب الشعبي في قضية فساد. وطرح بيدرو سانشيز الذي كان قد عاد إلى زعامة الحزب الاشتراكي، الثقة بماريانو راخوي، في خطوة خرج فيها منتصرا في الأول من يونيو بفضل أصوات بوديموس والقوميين الباسكيين والانفصاليين الكاتالونيين، ما أوصله تلقائيا إلى رئاسة الحكومة.
وهو على رأس حكومة لا تؤيدها سوى أقلية برلمانية، سعى سانشيز في 2019 إلى إقرار موازنة على أمل البقاء في السلطة حتى يونيو 2020. إلا أن المفاوضات مع الكاتالونيين المنادين بالاستقلال منيت بالفشل بعد بدء ملاحقات قضائية في مدريد في حق المسؤولين عن محاولة استقلال الإقليم في العام 2017. ولم يجد سانشيز مفرا من الدعوة إلى انتخابات مبكرة في 28 أبريل.
وبعد فوزه في انتخابات أبريل، بات سانشيز الوحيد القادر على تشكيل حكومة، إلا أنه فشل في الحصول على دعم بوديموس الذي اعتبر أن المناصب الوزارية التي عرضت عليه غير كافية.
وكذلك، لم يتمكن سانشيز من ضمان امتناع نواب كويدادانوس والحزب الشعبي عن التصويت. وفي ظل هذه المراوحة، تمت الدعوة إلى انتخابات جديدة في العاشر من نوفمبر.
وبعد فوزه في انتخابات نوفمبر 2019، عاد سانشيز إلى السلطة في يناير 2020 بنتيجة تحالف الضرورة مع بوديموس الذي أتاح لحكومة أقلية ائتلافية أن تبصر النور.
وتلت ذلك ثلاثة أعوام من الاستقرار رغم التشنجات المتكررة في أوساط السلطة التنفيذية التي اضطرت غالبا للتفاوض مع الأحزاب الباسكية والكاتالونية لإقرار إصلاحات في البرلمان.
وبعد هزيمة اليسار في الانتخابات المحلية في 28 مايو 2023، دعا سانشيز إلى انتخابات عامة مبكرة في 23 يوليو في خطوة فاجأت الجميع.