امرأة تعيش في زحمة القاهرة ومن حولها سور عظيم

ماذا يحدث لو أن في حياتك العادية وجدت نفسك تخطو إلى عالم مختلف؟ ماذا يحدث لو سقطت بضعة حيطان فتجاورت الأزمنة؟ متى يبطئ الزمن ومتى تتصاعد سرعته ومتى يقرر أن يلملم أشياءه ويرحل؟ هل هناك موت؟ وكيف نخلق لأنفسنا إيمانا جديرا بالحياة؟ هذه هي بعض الأسئلة التي تطرحها حكاية مريم وأمينة وكاثرين في رواية “مسك التل” للكاتبة والروائية المصرية سحر الموجي.
الثلاثاء 2017/08/22
وجوه وحكايات تخرج من الروايات

القاهرة – في رواية “مسك التل” تجمع الروائية المصرية سحر الموجي بين حيوات ثلاث نساء عشن في أزمنة وأماكن مختلفة، مريم الطبيبة النفسية التي تعاني من الاكتئاب، والتي عزلت نفسها عن العالم بمحض إرادتها، وأمينة زوجة السيد أحمد عبدالجواد في الثلاثية الشهيرة للروائي المصري الراحل نجيب محفوظ، وكاثرين بطلة رواية “مرتفعات وذرينج” للكاتبة إيميلي برونتي.

مريم هي الوحيدة من بين الشخصيات الثلاث التي لم تخرج من رواية “مسك التل” الصادرة حديثا عن دار الشروق في القاهرة، فهي تعيش في قلب القاهرة المعاصرة، لكنها تبني لنفسها سورا منيعا يعزلها عن العالم بعد أن استسلمت لأنياب الاكتئاب، وهي الطبيبة النفسية التي طالما استمعت لأوجاع الناس.

ومريم لا ترى في المدينة التي تعيش فيها سوى “متحف مفتوح لشتى الأمراض النفسية.. محمية طبيعية تضم في جنباتها التعصب والعدوانية وكراهية الذات، هذا بالإضافة إلى تشكيلة ممتازة من الاكتئاب والبرانويا والفصام والعصاب”.

هكذا ترى العالم من حولها، لذا آثرت الانسحاب، لم تعد تتابع أخبار العالم منذ زمن، وقطعت علاقتها بالصحف “عندما رأت الحروف ذات صباح تتحول إلى ديدان صغيرة سوداء تتكاثر وتسرح خارج الورق وفوق منضدة الصالة”. عزلت نفسها عن العالم واكتفت بالحياة بين حجرات بيتها وذكرياتها التي تحمل قدرا من الألم، لقد أحست في لحظة أنها لا تستطيع النزول من البيت والاستماع إلى شكاوى وأوجاع المرضى، ولم تعد قادرة على تحمل تلك النظرة في أعينهم التي تتوقع منها حلولا لا تخيب، أدركت فجأة أن كل الخيوط التي تربطها بما سبق من سنوات عمرها منذ بدأت دراسة الطب وحتى عامين مضيا قد تمزقت إلى أن التقت بأمينة وكاثرين.

في رواية “مسك التل” تعيد كاثرين إرنشو بطلة “مرتفعات ويذرنج” تقييم مشاعرها تجاه هيثكليف، كما تشعر بالندم تجاه ما اقترفته في حق زوجها إدغار، لكنها لا تستطيع الهرب من أحزانها

بيت السيرينت

وجدت مريم نفسها ذات يوم على مقهى في حي الأزهر تحتسي الشاي وتتجاذب أطراف الحديث مع أمينة بطلة ثلاثية “بين القصرين” و”السكرية” و”قصر الشوق” وكاثرين إرنشو بطلة “مرتفعات وذرينج”. اعتقدت في البداية أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى أعراض لخلل نفسي، لكنها سرعان ما تكتشف أن الأمر أكبر من قدرتها على فهمه أو تفسيره، وجدت مريم نفسها متورطة في تفاصيل حياة المرأتين بعد أن أعادتا بناء ذاتيهما وأصبح الماضي بالنسبة إليهما مجرد ذكريات يعيدان تقييمها من جديد، بناءً على ما طرأ عليهما من تغيير منذ أن وجدتا نفسيهما مع نساء أخريات في بيت “السيرينت”.

وبيت السيرينت هو بيت يقع على تلة في بقعة خيالية يحيطها الفراغ من كل جانب، يجمع البيت كل أبطال الروايات من الشرق والغرب، تحكي أمينة عن شعورها حين سمعت ذلك الاسم “سيرينت” لأول مرة، سألت عنه كاثرين في دهشة، ابتسمت كاثرين وقالت “إن السيرينتات هن نساء، نساء يا أمينة”، وسرعان ما تجهمت سحنتها وهي تؤكد على أمينة أن تحذر منهن، “نعم.. إياك والإنصات إلى أغان قد تسمعينها في هواء منتصف الليل أو ليالي المحاق!”، ولم تفهم أمينة شيئا مما تقوله كاثرين، كانت الأرض تميد بها، ما هذا المكان؟ من الذي أتى بكل هؤلاء النساء هنا؟ وما هذا الخرف الذي تحكيه كاثرين؟

رغم هذا الغموض والخطر المحدق بهذا المكان الخرافي المسمى ببيت السيرينت فقد أتاح هذا البيت لنسائه فرصة التفكير في حياتهن الماضية من جديد، وإعادة تقويم ما استطعن تقويمه، تعلمت أمينة القراءة، بل راحت تلتهم كل ما يقع تحت يديها من الكتب التي تحتويها مكتبة هذا البيت. وتواجه أمينة نفسها ذات يوم حين تعثر على روايتها وتتأمل حياتها المكتوبة، كانت أصعب لحظاتها حين تعرفت على تفاصيل موت ابنها فهمي وهو يسير في مظاهرة ضد الإنكليز؛ “عندما قرأت أمينة هذه الصفحات في رواية ‘بين القصرين’ كاد قلبها يتوقف من شدة الألم، فلم تتخيل في يوم ما أن تعرف كيف مات فهمي، أن تشعر كأنها كانت معه في وسط الجموع، تسمع الهتاف الواحد وينتفض قلبها فرحا بانتصار الثورة، ثم ينفلق نصفين وهي تشاهد ابنها يقع وعيناه شاخصتان إلى السماء، لقد انطبعت تلك السطور في عقلها كلمة كلمة وحرفا حرفا”.

في رواية “مسك التل” تعيد كاثرين إرنشو بطلة “مرتفعات ويذرنج” تقييم مشاعرها تجاه هيثكليف، كما تشعر بالندم تجاه ما اقترفته في حق زوجها إدغار، لكنها لا تستطيع الهرب من أحزانها.

"السيرينت" بيت كل أبطال الروايات من الشرق والغرب

تقاطع الحكايات

تتقاطع حكاية النساء الثلاث حين يقذف القدر بكاثرين وأمينة إلى الحياة من جديد وينتشلهما من بيت السيرينت، فكيف ستكمل المرأتان حياتيْهما وقد تجاوزهما الزمن؟ وما التغير الذي يمكن أن يحدث عند لقائهما بحياة أخرى وأشخاص آخرين؟

أمينة زوجة السيد أحمد عبدالجواد في رواية نجيب محفوظ، هذه السيدة الخنوعة المستسلمة لتسلط زوجها تتحول إلى امرأة أخرى، تمسك هنا بزمام المبادرة وتحوط كل من حولها باهتمامها ورعايتها، وتشعر بأنها مسؤولة عن الجميع، وتتجاوز حنينها لذلك الماضي وهي تتتبع ما آلت إليه حياة أبنائها بعد رحيلها، وما آل إليه ذلك البيت الكبير الذي كان يمثل كل عالمها. أما كاثرين فتدخل أخيرا في علاقة جديدة بعد أن ظلت لفترة حائرة لا تعرف إن كانت لا تزال روحا هائمة تدور حول بيت المرتفعات وهي تصرخ طالبةً أن يفتحوا لها، أم أنها في غرفتها في بيت السيدة زينب، حيث تعيش حياتها الجديدة مع مريم وأمينة.

في رواية سحر الموجي تتداخل الأحداث والذكريات بين ما هو مكتوب في الروايات وما عايشته الشخصيات في بيت السيرينت وبين الواقع الجديد الذي وجدت أنفسها فيه، وفي المقابل تجد مريم نفسها في زيارة عكسية لبيت السيرينت.

وتطالعنا الرواية بحيوات لبطلات أخريات كالسيدة ماكبث من رواية شكسبير، وعزيزة من رواية “الحرام” ليوسف أدريس، وليلى من رواية “الباب المفتوح” للكاتبة المصرية لطيفة الزيات، وغيرهنّ من بطلات الروايات الأخريات، بينما تبدو مريم كاستثناء بين هؤلاء هي والكاتبة الإنكليزية فيرجينيا وولف، التي يلتقين بها هائمة على وجهها في شوارع القاهرة بعد هروبها هي الأخرى من بيت السيرينت.

14