الواقعية أولى مفاتيح النجاح الدبلوماسي

لم يحدث أن خصصت الحكومات السابقة، جزءا من برامجها للشأن الدبلوماسي كما خصصته الحكومة الحالية التي أفردت مساحة معتبرة من مخططها للاستراتيجية الدبلوماسية في المستقبل، وإن كان الأمر لا يتعلق بمراجعة الخيارات والتوجهات التقليدية أو إعادة صياغة مواقف الدولة، فإن البرنامج تضمن آليات مادية وبشرية لتعزيز الجهاز، وكأنه إدارة في حاجة إلى موظفين جدد، غير أن النتائج تسير عكس التوقعات تماما، وأظهرت اختلالات لم يسبق للدبلوماسية الجزائرية أن عرفتها في الماضي، حتى في ذروة الأزمات والضعف.
وسواء أبلغت مدريد الجزائر بموقفها المستجد بشأن قضية الصحراء المتنازع علينها بين المغرب وجبهة بوليساريو، وانحيازها الكلي لصالح مقاربة الرباط في المسألة، أو لم تبلغها كما تذكر، فإن الانتكاسة الدبلوماسية كانت كبيرة، ليس لأن إسبانيا غيرت موقفها تحت أيّ ظرف من الظروف، بل لأن الجزائر لم تتفطن ولم تستبق التحول الدبلوماسي، وظلت تتعلق بتناغم مزيف قدمت فيه الكثير ولم تحصل فيه على أيّ شيء.
وزارة سيادية بـ”أرمادة” من الخبراء والمستشارين وعلى رأسها وزير مخضرم، و”أرمادة” أخرى من الوجوه ذات الخبرة والتجربة استعان بها الرئيس لتفعيل الجبهة الدبلوماسية، إلا أن ما حدث مع إسبانيا عزز الانتكاسة والفشل في إدارة الشأن الدبلوماسي، فإذا كان الأمر قد بدأ بعزلة تدريجية دخلتها البلاد بمرض الرئيس الراحل لأنه اختصر كل شيء في شخصه، فإن التخبط السائد في السنوات الأخيرة يدفع إلى ضرورة مراجعة المسألة والبحث عن الأسباب الحقيقية التي أوصلت البلاد إلى هذا المنحدر.
ولعل أبرز تلك الأسباب غياب الرقابة والمساءلة، وانحصار دور المؤسسات المعنية في توجيه الأسئلة التي يأنف الوزراء من الرد عليها، وفوق ذلك هناك من الدوائر من هي خارج الرقابة تماما، ولو كان المجتمع المدني والمؤسسات المنتخبة في مستوى التطلعات والمسؤولية لتمت دعوة الحكومة برمتها لتبرير هذا الفشل، ولأقال رئيس الدولة كل الأشخاص والمصالح ذات الصلة.
الرئيس الراحل الذي كان يريد ضرب التوازنات الداخلية لتثبيت أركان حكمه وعلى حساب مصالح الدولة، استحدث في إحدى الحكومات رأسين لوزارة الخارجية، في تقليد لم يسبق العمل به في الأصول الدبلوماسية، والرئيس الحالي استعان بمبعوثين ومستشارين لمختلف الملفات والأصقاع، ولا يدري أحد ما علاقة هؤلاء برئيس الدبلوماسية وهل هم يشتغلون تحت إمرة وزير الخارجية أم رئيس الدولة، أو كيف يصنع القرار الدبلوماسي؟
الجزائر أكبر بلد عربي وأفريقي وحدودها ممتدة، ومصالحها متشابكة ومعقدة، وهو ما يتطلب أداء دبلوماسيا حكيما ورصينا
لقد ثبت من التجربة الأخيرة أن الأداء الدبلوماسي هو جزء من أداء باقي مؤسسات الدولة، وأن المسألة تتعلق بوضوح الرؤية والاستراتيجية الرصينة، وليس بفتح مناصب شغل لصالح أسماء سبق لها المرور على هذه المصلحة أو تلك، ولذلك فان مفردات “المفاجأة” و”الاستغراب” من الانقلاب الإسباني لن تجدي نفعا الآن.
ومهما كانت ردود الفعل أو ما يروّج له على أنه انقسام للرأي العام الرسمي والشعبي في إسبانيا حول القرار، إلا أن الموقف الأخير يبقى هو موقف مدريد الرسمي الآن، والمؤسسات الحقيقية لا مجال عندها للهزل، فرغم التجاذب القائم بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة، إلا أن جو بايدن لم يتراجع أو يراجع موقف سلفه وخصمه اللدود دونالد ترامب، تجاه قضية الصحراء تحديدا.
وإلى سنوات قليلة، كانت مؤسستا الجيش والدبلوماسية تحظيان بقدسية خاصة لدى الرأي العام الجزائري، ولم يحدث أن صوبت سهام النقد إلى أيّ منهما، لكن بانجرارهما إلى ما لا يعنيهما صارتا تسمعان كل أصناف النقد وحتى الهجوم، وباتت مكانة الجيش والدبلوماسية محل امتعاض وحتى غضب، لا لسبب إلا لأن الجيش وجه إرادة الجزائريين في 2019، إلى ما يريده ضباطه الكبار، وأن الالتحاق بالسلك الدبلوماسي صار يتم بالمحاباة والمحسوبية.
عندما كتبت صحيفة محلية متواضعة تقريرا عن وضع الجالية الجزائرية في بلد قوي، ووقع السفير في حرج إثر تلقيه اتصالا من الوصاية للاستفسار عن الأمر، فلم يبق أمامه سوى التودد لمسؤول التحرير في الصحيفة لنشر تقرير مضاد لإنقاذه من المساءلة. استغرب مسؤول التحرير طلب السفير، وصارحه بأن السفراء ممنوعون بتعليمات الرئيس (بوتفليقة)، من تحرير أو نشر أيّ رد في أيّ وسيلة إعلامية سواء كانت في موطن السفارة أو في الوطن الأم.
هذه الممارسات تراكمت في الجهاز الدبلوماسي، إلى درجة الانكفاء على أداء دوره أو الاهتمام بالمصالح الخاصة والضيقة لضعيفي النفوس، ولذلك باتت مصالح الدولة تباغت من طرف إسبانيا وغير إسبانيا، لأن مهمة امتلاك المعلومة والاستشراف غائبة عن سفارات ودوائر منكفئة داخل الأسوار بدل المتابعة والتقصي.
وهو ما يناقض تماما حادثة أخرى تترجم المقارنة بين الزمنين الذهبي والنحاسي للدبلوماسية الجزائرية، فقد كان مدير مكتب وكالة الأنباء الجزائرية أحمد فتاني على اطلاع بقرار الانتقال من حكم بورقيبة إلى بن علي بتونس في ثمانينات القرن الماضي، وإذا كان هذا أمر صحافي، فكيف يكون أمر الدبلوماسي الذي كان يشتغل حينها هناك.
صحيح السلطة الجديدة في البلاد ورثت عزلة دبلوماسية عن الرئيس الراحل، لكن العزلة المذكورة لم تكسر بل تعززت في الآونة الأخيرة، ودخلت البلاد في قطيعة مع المغرب، وفي أزمة مع فرنسا، وفي توتر مع ليبيا ومع دول الجنوب، وها هي الآن في فتور مع إسبانيا. وإلى حد الآن لم يقدم الجواب الكافي للجزائريين عن خلفية هذه المشاكسات ودلالاتها.
الجزائر أكبر بلد عربي وأفريقي وحدودها ممتدة، ومصالحها متشابكة ومعقدة، وهو ما يتطلب أداء دبلوماسيا حكيما ورصينا لأنها تعيش في عالم متقلب وليس في جمعية خيرية، والحفاظ على المصالح يتطلب الدهاء والفطنة وفهم المتغيرات وليس الغفلة أو التفريط في الواقعية، والإفراط في خطاب العقود البائدة.
لقد دعا الرئيس عبدالمجيد تبون منذ أشهر أعضاء السلك الدبلوماسي وأجرى حركة عميقة في صفوفه، لكن لا شيء تغير إلى حد الآن، بل الأمور تسير نحو خسارة تدريجية للمصالح الاستراتيجية، لأن الخيارات على ما يبدو غير مصنفة ومرتبة كما يجب، وإلا لما تم الاكتفاء بضجيج قمة عربية لن تؤخر ولن تقدم شيئا لا للجزائر ولا للراهن العربي.