الهوية الدينية تعود إلى أوروبا من أوسع الأبواب

تحوّل نوعي يطرأ على الوعي الأوروبي في العقد الأخير نتيجة الصدام مع الإسلام، المتولد عن مظاهر العنف والقتل التي شهدتها أعداد من البلدان الأوروبية.
الثلاثاء 2018/06/12
جبهة لا بد منها

عندما قال الروائي الفرنسي أندريه مالرو، في ستينات القرن الماضي بأن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الأديان أو لا يكون، لم يكن على الأرجح يضع في اعتباره أن القرن الحالي سيشهد تحولات دراماتيكية يشكل الدين واحدا من مكوناتها وسنداتها الكبرى. والمؤكد أن مالرو، الذي تولى مسؤوليات في مستوى جهاز الدولة الفرنسية في قطاع الثقافة، كان يعني أوروبا أيضا، وليس فقط أفريقيا والعالم العربي.

 وما نشهده اليوم من تغيرات على الصعيد العالمي، وعودة الدين بقوة لكي يحتل موقع المركز في السياسات الثقافية والأمنية والاجتماعية، بسبب آثار التدمير التي يخلفها التطرف الديني، وظهور أنماط جديدة من العنف، وتزايد التعبيرات الدينية التي غذت جزءا من الخطاب السياسي، كل ذلك يؤكد صحة ما قاله مالرو، قبل أزيد من خمسة عقود.

الدراسة التي نشرها مركز “بيو” الأميركي للأبحاث هذا الأسبوع تبرز هذا المسار الذي يسير فيه العالم الراهن، بالنظر إلى الانعطافات الكبرى التي حصلت في العقدين الأخيرين بوجه خاص وأدت إلى حالة غير مسبوقة من التماس بين الدين والسياسة، إلى الدرجة التي أصبح فيها الدين أو التدين يملي شروطه لدى الأفراد في مواقفهم من مختلف القضايا التي تطرح نفسها في الساحة العامة، وأصبحت السياسة تشير نحو الخضوع للتمثلات الدينية. إننا اليوم في قلب نظرية صدام الحضارات التي صاغها الأميركي صامويل هانتنغتون، قبل أزيد من عشر سنوات، عندما تنبأ بأن الحدود الثقافية في المستقبل ستصبح حدودا دينية.

تطور نوعي طرأ على المجتمعات الغربية، وبات يهدد الثقافة العلمانية التي تربت عليها أجيال متعاقبة في القارة الأوروبية. هذا التطور يتمثل في بروز الاصطفافات على أسس مذهبية وعقائدية وعودة ما يسمى بالهوية الدينية كما تنبأ لها مفكرون غربيون مثل المثقف الفرنسي أندريه مالرو، ومن بعده المفكر والسياسي الأميركي صامويل هانتنغتون، في القرن الماضي، ويأتي ذلك نتيجة لظهور حركات التطرف الإسلامي وتنامي نشاط الحركات الإرهابية التي من شأنها أن تخلق ردات فعل تأخذ في أغلبها حالة من التقوقع للفرد الأوروبي داخل كيانات دينية كما دلت عليه إحصائيات واستطلاعات ميدانية وصفت بالتراجعات والخسارات المرة داخل المجتمعات الأوروبية.

الدراسة، التي أجريت في نهاية العام الماضي ونشرت نتائجها أخيرا وشملت 15 بلدا أوروبيا، أظهرت تصاعدا في الشعور بالهوية الدينية المسيحية لدى الشباب الأوروبي بوجه خاص، إذ أصبحت الهوية الدينية تحل تدريجيا محل الهوية الوطنية في السنوات الأخيرة بسبب التحولات في الساحة الدينية العالمية وبروز مظاهر العنف والتطرف باسم الدين.

وعلى الرغم من أن الدراسة تبرز أن غالبية هؤلاء الشباب ليسوا متدينين بالمعنى الحقيقي، أي لا يرتادون الكنيسة بل ولا يؤمنون بالألوهية، إلا أن شعورهم بالانتماء الديني يعد الطابع المميز لهم، وهو تحول نوعي غير مسبوق. وتكشف الدراسة أن هذا الشعور بالهوية الدينية ينعكس على مواقف الأفراد، سواء كانوا مسيحيين ممارسين أم لا، تجاه قضايا الإسلام والهجرة، ونفس الأمر تجاه اليهود.

ففي بريطانيا يرفض 23 بالمئة، من أصل 1841 شخصا شملهم الاستطلاع، استقبال شخص يهودي في أسرتهم، وترتفع هذه النسبة في إيطاليا إلى 25 بالمئة، وتنخفض في ألمانيا، حيث أبدى 19 بالمئة من أصل 2211 شخصا موافقتهم على استقبال شخص يهودي، ثم في إسبانيا والبرتغال وإيرلندا، حيث سجلت النسبة 13 بالمئة في البلد الأول و18 بالمئة في البلدين الآخرين. أما النسبة الأعلى التي ظهر فيها نوع من التسامح تجاه اليهود فقد سجلت في هولندا، حيث أعلن 96 بالمئة من أصل 1497 ممن شاركوا في الاستطلاع أنهم لا يرون أي مشكلة في استقبال شخص من الديانة اليهودية داخل أسرهم.

وفي ما يتعلق بالإسلام، يرى 49 بالمئة في جميع البلدان التي شملها الاستطلاع أن الإسلام لا يتوافق مع القيم والثقافة الأوروبيتين. وفي ألمانيا ترتفع هذه النسبة، حيث يرى 55 بالمئة من المسيحيين المتدينين و32 بالمئة من غير المتدينين نفس الرأي، مقابل ذلك يرفض 29 بالمئة من المسيحيين في جميع هذه البلدان استقبال شخص من الديانة الإسلامية داخل عائلاتهم، بسبب الاختلافات الدينية. والملاحظة الأبرز هي أن غالبية المشاركين في الاستطلاع ليس لديهم إلمام كاف بالإسلام، على الرغم من احتكاكهم المستمر مع المسلمين بشكل يومي.

حالة من التماس بين الدين والسياسة إلى الدرجة التي أصبح فيها التدين يملي شروطه لدى الأفراد في مواقفهم

بيد أن النقطة الأكثر إثارة للانتباه أن نسبة كبيرة من المستجوبين لديهم مواقف سلبية من المهاجرين القادمين من منطقة الشرق الأوسط، وهذا بسبب الاضطرابات التي تشهدها المنطقة وبروز الجماعات الإرهابية التي ساهمت بشكل واضح في ترسيخ الصورة المظلمة للإسلام لدى الأوروبيين. فقد أكدت الدراسة أن 26 بالمئة من المسيحيين الذين يرتادون الكنيسة، يرون أن المهـاجرين القـادمين من منطقة الشـرق الأوسط ليسوا محل ثقة، بينما يرى 40 بالمئة منهم أنه يتعين تقليص معدلات الهجرة إلى أوروبا.

وتعكس هذه الأرقام التطور النوعي الذي طرأ على الوعي الأوروبي في العقد الأخير نتيجة الصدام مع الإسلام، المتولد عن مظاهر العنف والقتل التي شهدتها أعداد من البلدان الأوروبية في الأعوام الأخيرة، بفعل التفجيرات الإرهابية، إلى حد أن البعض بات يتحدث عن صحوة الضمير المسيحي في الغرب.

بيد أن هذه الأرقام ليست خالية من الدلالة السياسية، ذلك أن اليمين المتطرف في أوروبا، الذي يشهد تصاعدا رهيبا، يتغذى على هذه التحولات التي تحصل على مستوى الوعي القومي والديني لدى الشباب الأوروبي. وقد لوحظ في السنوات الأخيرة أن الكاثوليك في فرنسا أصبحوا يميلون إلى التصويت لحزب الجبهة الوطنية لمارين لوباين، المعروف بمواقفه المتطرفة تجاه الإسلام والمسلمين والمهاجرين، عكس العقود الماضية، ما يؤكد صعود الهوية المسيحية في المشهد السياسي الفرنسي خصوصا والأوروبي بوجه عام.

وتظهر الأرقام أن ما بين 20 و25 بالمئة من هؤلاء الكاثوليك أصبحوا يتبنون مواقف الجبهة الوطنية، وهو ما يحذر منه كريستيان دولورم، قسيس مدينة ليونيز، الذي يرى أن هذا الصعود في الهوية الدينية المسيحية لدى الناخبين الفرنسيين يهدد العلمانية ويقوض جهود حوار الأديان.

13