الهدر العنوان العريض للفشل في المجتمعات العربية

لندن – لم يكن من قبيل الصدفة أن تتفوق الولايات المتحدة في تسجيل براءات الاختراع في المنظمة العالمية للملكية الفكرية “ويبو” لتستحوذ على ما يقارب ربع البراءات المسجلة في 2018.
لقد سجلت أميركا أكثر من 56 ألف براءة اختراع، تليها الصين بـ53 ألف طلب، واليابان 49.7 ألف طلب، وفقا لبيان “ويبو”.
وجاءت ألمانيا في المرتبة الرابعة عالميا بتسجيل نحو 20 ألف طلب، تلتها كوريا الجنوبية بـ17 ألف طلب، وفرنسا نحو ثمانية آلاف طلب، وبريطانيا 5641 طلبا، وسويسرا والسويد وهولندا ما يقرب من 13 ألف طلب.
في المقابل لا يتجاوز العدد في الدول العربية مجتمعة من المحيط إلى الخليج للمقيمين فيها وغير المقيمين 8000 طلب.
يحيل الأمر، على ما أكده الباحث العراقي داخل حسن جري، في إحدى مقالاته العلمية إلى أن “الابتكارات والاختراعات ستصبح المحرّك الأساسي لقياس مكانة الدول في سلم التنمية الاقتصادية”، والتنمية الاقتصادية هي مفتاح الرقي بالأجيال القادمة.
ويقول إدوارد إليوت، مستشار قانوني ومدير برنامج براءات الاختراع من أجل الإنسانية لدى مكتب الولايات المتحدة للبراءات والعلامات التجارية في الولايات المتحدة الأميركية (ويبو) “يتسم الابتكار بقدرته على تحسين الحياة. فالناس في البلدان الصناعية يستفيدون من الابتكار كل يوم، بدءا من أجهزة الكمبيوتر السريعة والهواتف المحمولة ذات القدرات العالية ووسائل النقل الأكثر أمانا والطاقة النظيفة والعلاجات الطبية ذات الجودة العالية وعدد لا يحصى من المنتجات والخدمات الأخرى. وقد أثبتت الأسواق التجارية والهياكل التحفيزية فعاليتها الكبيرة في نشر الابتكار لتحسين الحياة”.
ورغم ذلك لا يطرق الحظ باب جميع الناس. فالسكان المعدمون في المناطق النامية وغيرها يصارعون للحصول على الضرورات الأساسية. ولا تجذب هذه المناطق في الكثير من الأحيان نفس الاهتمام من المبتكرين، وذلك لأسباب تشمل ندرة رأس المال والافتقار إلى البنية التحتية، وانخفاض مستويات التعليم، وقصور الحماية القانونية وحزمة من العوامل الأخرى. هذا لا يعني أن الابتكار لا يجد مكانا له في هذه المناطق، من المؤكد أن له مكانا في هذه المناطق على اعتبار أن الإنسان مخلوق يتميز بالابتكار في كل بقعة من العالم. الإشكال هو أن آليات السوق التي تلعب دورا فعالا جدا في نشر الابتكار في الاقتصادات المتقدمة تواجه تحديات غير مألوفة حين يتعين الوصول إلى من هم أقل حظا في جميع أنحاء العالم.
وعلى مدى أكثر من 200 عام، دعمت البراءات التقدم التكنولوجي والاقتصادي.
غياب ثقافة التشجيع
إن الفجوة واسعة جدا في منطقة الشرق الأوسط بين العرب وجيرانهم وتزداد اتساعا بينهم وبين “عدوهم” التاريخي إسرائيل التي تنفق على البحث العلمي 4.7 بالمئة من إجمالي دخلها القومي، وهو ما يساوي إجمالي ما تنفقه الدول العربية مجتمعة، فضلا عن أن جزءا كبيرا من المخصصات المالية لمجال البحث والتطوير في العالم العربي تصرف فقط على شكل أجور للأساتذة الباحثين من دون تحقيق أي منتج علمي.
ويفيد تقرير العلوم لليونسكو عام 2015، بأن نسبة الإنفاق المحلي الإجمالي للدول العربية كلها على البحث والتطوير بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي لا تزال واهية جدا. فعام 2013 لم تبلغ هذه النسبة واحدا في المئة من الإنفاق المحلي الإجمالي العالمي إلا بعد جهد بالغ. ورغم أن عدد الباحثين في البلدان العربية كلها قد شهد ارتفاعا من 122900 باحث عام 2007 إلى 149500 باحث عام 2013، لكن نسبتهم من عدد الباحثين في العالم تساوي 1.9 بالمئة. بينما بلغ عدد السكان العرب 358 مليون نسمة في السنة نفسها، أي نحو خمسة بالمئة من سكان العالم.
ويناهز عدد طلبات تسجيل براءات الاختراع في إيران سنويا أكثر من 13800 طلب.
يذكر أنه في العام 1964 سجلت إيران 80 طلبا لتسجيل براءات الاختراع في المقابل سجل العراق 130 طلبا.
ويقول مصطفى كامل رئيس تحرير صحيفة وجهات نظر إن “حالة التردي والتراجع في مجال رعاية المواهب العلمية التي يعيشها العراق اليوم مرتبطة بشكل كبير بالحالة العامة التي يعيشها العراق منذ احتلاله. فالعراق منذ العام 2003 يعيش حالة اللادولة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة، حيث شيوع ظاهرة التدهور العامة في جميع المجالات”.
ويضيف في تصريحات لـ”العرب” “لقد كان العراق غنيا بالمواهب العلمية، حينما كانت هناك دولة ترعى أبناءها وتوفر لهم سبل تنمية مواهبهم ورعاية ابتكاراتهم وتستثمر طاقاتهم في مشاريع جدية ضمن خطط التنمية الواسعة التي يجري تنفيذها في البلاد”.
وشرح “كان يتم إيفاد أعداد كبيرة جدا من الشباب للدراسة في كبرى الجامعات العالمية، وهؤلاء هم النواة التي أثمرت في ما بعد خيرة علماء وخبراء وفنيي العراق البارزين في شتى المجالات، حيث صقلت مواهبهم الذاتية بالدراسة في جامعات العالم المتقدم، وحينما عادوا إلى العراق تبوأوا مراكز عليا في المؤسسات الحكومية المختلفة، وساهموا في حركة البناء والتطوير والنهوض التي كانت سمة ذلك العهد. وتواصلت مهمات رعاية الشباب وتنمية مواهبهم طيلة عقدي الثمانينات والتسعينات، وحتى احتلال العراق، رغم ما مرَّ به العراق من ظروف صعبة جراء الحروب والحصار”.
واضاف كامل “أما اليوم، فما يجري هو العكس تماما، ففضلا عن اختفاء برامج التأهيل والتطوير وتنمية المواهب العلمية، يجري تنفيذ سياسة متعمدة للتجهيل وإشاعة المفاهيم التضليلية بين الشباب، وفق مخطط مدروس تساهم في تنفيذه دول وأجهزة مخابرات عالمية. فقد تقاسمت الأحزاب الطائفية والميليشيات الإرهابية المسلحة، المدعومة من إيران تحديدا، السيطرة على الجامعات والمؤسسات العلمية والأكاديمية على اختلافها، وجعلت منها مرتعا لنشر الأفكار الظلامية وإقامة الممارسات والطقوس الطائفية. وبينما كانت الجامعات، في العهد الوطني، تتبارى في إقامة مؤتمراتها العلمية ورعاية طلبتها، صارت اليوم تتبارى في إشاعة المفاهيم التضليلية الظلامية المنفّرة، فضلا عن ذلك، فقد نفذت أطراف عديدة، محلية وخارجية، سياسة متعمدة لإفراغ العراق من الكفاءات العلمية، حيث تمت تصفية الآلاف من العلماء والأكاديميين والأطباء والمهندسين، بالقتل المباشر، أو بسياسة الاجتثاث لأسباب سياسية وطائفية”.
ويؤكد المتحدث “لأن الشباب مادة المستقبل، فإن أي محاولة لإنقاذ العراق تغفل الاهتمام بهذه الشريحة الواسعة تظل قاصرة عن تحقيق أهدافها، ومن هنا فإن واحدة من أهم الخطوات الواجبة لاستنقاذ العراق عودة مراكز الرعاية العلمية وتنمية قدرات الشباب، وتوجيههم نحو هوايات مفيدة وعملية تخدمهم وتنير عقولهم وتكون أساسا لمستقبلهم وتبعدهم عن الضياع في دوامات العنف والإرهاب والطائفية، وتساهم في تنمية مجتمعهم. كما تتطلب مهام استنقاذ العراق إبعاد الجامعات والمراكز البحثية والمدارس عن سطوة الأحزاب الطائفية والميليشيات الإرهابية، وترغيب العلماء والخبراء والباحثين العراقيين في العودة إلى الوطن بعد توفير مناخ آمن لهم، يسمح بتقديم خبراتهم الثرية للمجتمع، للإسهام في بناء عراق يستوعب كل أبنائه بحرص ومحبة”.
إن الأرقام الورادة، تكشف دون شك، في الدول العربية، عن ضعف الثقافة المشجعة على الابتكار في البلدان العربية، وهو ما تحاول بعض دول الخليج الغنية تلافيه في السنوات الخمس الأخيرة، والتي أبدت اهتماما ملفتا للنظر بالابتكار والمبتكرين والتشجيع على ذلك من خلال عدد من الاستراتيجيات والخطوات التنفيذية المشجعة.
ورغم ذلك لا تعكس الأرقام الواقع العربي بوضوح. فالدول العربية تضم الكثير من المواهب والمخترعين الذين يسجلون سنويا براءات اختراعاتهم وابتكاراتهم في المجالات العلمية والفنية والهندسية، لكنهم يفضلون تسجيلها في مكاتب براءات الاختراع الأجنبية خاصة في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، لوجود ضمانات قانونية أكبر للحافظ على حقوق الملكية الفكرية في هذه الدول وكذلك لوضوح الإجراءات القضائية في حال تم الاعتداء على حق الملكية الفكرية وسرعة التقاضي وضمان التعويض المادي والمعنوي.
وتشير آخر الإحصائيات التي يقدمها دوريا الموقع المتخصص freepatentsonline.com إلى أن براءات اختراع الباحث الجزائري بلقاسم حبة في مشوار عمله بالولايات المتحدة الأميركية وصلت إلى غاية سنة 2017، 1296 اختراعا كلها في مجال الإلكترونيات والتكنولوجيا الدقيقة.
وساهمت اختراعات الباحث في تطوير وظائف الرقائق الإلكترونية الموجهة لصناعة الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر وغيرها من أجهزة التكنولوجيات الدقيقة. وصار الباحث في السنوات القليلة الماضية يقدم براءة اختراع كل أسبوع.
ويقول بلقاسم إنه بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الطاقة الشمسية، من جامعة في الولايات المتحدة قرر العودة إلى الجزائر. وفي هذا السياق يقول “أردت العمل والاستقرار في بلدي لأنقل إليه ما تعلمته في أميركا”.
غير أن الأمور لم تسر بحسب ما خطط له بلقاسم، حيث بقي لأشهر عديدة دون عمل. فحمل حبة خبرته وكفاءته وسافر إلى اليابان حيث عمل ست سنوات في مجال الأبحاث الإلكترونية. وفي سنة 1996 عاد إلى الولايات المتحدة ليجدد مسيرته مع الأبحاث والاختراعات.
ويصف تجربة البحث في أميركا بـ”المتميزة”، ويوضح “ما فعلته في أميركا لا أستطيع أن أكرره في أي مكان آخر في العالم”. وحول السر وراء ذلك يؤكد أنه يتمثل في الاهتمام بالبحث وتوفر الإمكانات.
هدر فوضوي
في تقرير حول التنمية الإنسانية العربية يشير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن ما يقارب ثلث سكان المنطقة العربية هم من الشباب في أعمار 15 -29 سنة، وهناك ثلث آخر يقل عمرهم عن 15 عاما، ما يضمن استمرار هذا الزخم السكاني إلى العقدين المقبلين على أقل تقدير، ويوفر فرصة تاريخية يتحتّم على البلدان العربية اغتنامها.
هذه الكتلة السكانية غير المسبوقة في تاريخ المنطقة من شباب في أهم سنوات القدرة على العمل والعطاء تكون طاقة هائلة قادرة على دفع عجلة التقدم الاقتصادي والاجتماعي إذا أتيحت لها الفرصة.
لكن الحكومات العربية، مع استثناءات بسيطة، لا تريد اغتنام هذه الفرصة التاريخية. فكل الظروف السائدة في المنطقة هي ظروف إهدار.
ويعكس عدد طلبات تسجيل براءات الاختراع في العالم العربي بوضوح هذا الهدر.
وتعاني المنطقة على مستوى الاحتفاظ بالمهارات، كما تصنف ضمن الأقاليم الطاردة للمواهب والكفاءات عالميا.
وتستأثر الدول الصناعية الكبرى بقرابة 28 مليون مهاجر من أصحاب المهارات العالية، 70 بالمئة منهم يقيمون في الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا والمملكة المتحدة، بفضل برامج جذب المواهب التي تعتمدها هذه الدول والقائمة على التسهيلات القانونية في الإقامة ومنح الدراسات العليا والتدريب وتسهيل الانخراط في سوق العمل، وفقا لتقرير “التدفقات العالمية للمواهب” الصادر عن البنك الدولي في أكتوبر 2016.
وكانت الإمارات قد أعلنت في فبراير الماضي، عن إقرار منظومة تأشيرات لدخول البلاد تركز على استقطاب الكفاءات والمواهب الاستثنائية.
في المقابل تعاني أغلب الدول العربية من تردي مستوى التعليم العالي وضعف الجامعات، خاصة في التخصصات العلمية، وعدم وجود مناخ ملائم للبحث العلمي على المستوى المادي من خلال ضعف الإنفاق الحكومي والخاص وعلى مستوى السياسات العامة. وتساهم الأوضاع الأمنية والحروب التي تعيشها دول عربية والتهديدات الإرهابية في تردي الأوضاع أكثر من أي وقت مضى وتجعل الاهتمام بتطوير القدرات العلمية والتعليمية والاهتمام بالمواهب والرفع من كفاءاتها ودعمها في سبيل الابتكار والاختراع، أمرا ثانويا. إذ تذهب أغلب الموارد نحو استيراد السلاح وإخماد الانتفاضات الاجتماعية ومقاومة الإرهاب. إلى جانب كل ذلك، تقف السياسات القمعية لبعض الحكومات حجر عثرة أمام حركة الابتكار والاختراعات في بلدانها بذرائع شتى.
وقال المدير التنفيذي للمؤشرات العالمية في إنسياد برونو لانفين “من وجهة نظر ديموغرافية، تتمتع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمتوسط أعمار يعد الأصغر عالميا، وهو ما يوفر الكثير من الفرص وفي الوقت ذاته يجلب الكثير من التحديات. فمن ناحية، يمتلك الجيل الجديد في المنطقة الطاقة والإبداع والطموح، ومن ناحية أخرى يعد توفير وظائف لأبناء هذا الجيل ضرورة ملحة. وتعد التكنولوجيا جزءا مهما من هذا التحدي، حيث تشمل وظائف المستقبل العديد من المجالات مثل الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي والمعزز، كما تتطلب هذه الوظائف ترقية المهارات بشكل مستمر. إن هذا الوقت هو الأنسب للحكومات والشركات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لتقوم بتطبيق السياسات المطلوبة بهدف الاستفادة من الفرص المتاحة لدعم ريادة الأعمال والتنافسية والابتكار في مختلف أنحاء المنطقة”.
وقد حذر تقرير أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 2016 من أن الاستمرار في تهميش الشباب العربي وتجاهل أصواتهم يهدد بإجهاض جهود التنمية في المنطقة. وحمل تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2016 عنوان “الشباب وآفاق التنمية في واقع متغير” وهو السادس في سلسلة تقارير يصدرها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي منذ عام 2002.
وجاء في مقدمة التقرير أن “الاستمرار في تجاهل أصوات الشباب وإمكاناتهم والاكتفاء بمبادرات صورية أو مجتزأة لا تغير واقعهم يذكي اغترابهم عن مجتمعاتهم أكثر من أي وقت مضى”. وأضاف أن هذا النهج “يدفعهم إلى التحول من قوة بناء في خدمة التنمية إلى قوة هدامة تسهم في إطالة حالة عدم الاستقرار وتهدد أمن الإنسان بمختلف أبعاده… بشكل خطير قد يجهض عملية التنمية برمتها”.
ودعا التقرير إلى تطوير السياسات والاستراتيجيات الخاصة بالشباب وكذلك إعادة صياغة السياسات العامة في البلدان العربية ”حول نموذج جديد للتنمية جدير بالشباب في ظل الواقع المتغير الذي تعيشه المنطقة اليوم“. ويرتبط التقرير الجديد بخطة التنمية المستدامة لعام 2030 التي اعتمدها زعماء العالم والتي تؤكد أن ”الشبان والشابات عوامل تغيير حاسمة ومحوريون لتحقيق التنمية المستدامة“.