النهضة وقانون المصالحة.. على أي ساق سترقص
مصادقة مجلس نواب الشعب في تونس، مساء الأربعاء، على قانون المصالحة الإدارية، أثارت جدلا كبيرا في الأوساط السياسية والشعبية التونسية، وأبانت أيضا عن تناقضات كبيرة في المواقف السياسية لتيارات بعينها، كما كشفت أن سياسات البلاد أصبحت ترسم وفق معادلات تراعى فيها المصالح الحزبية أكثر من التفكير في إخراج تونس من أزماتها.
بصرف النظر عن مدى وجاهة المواقف المدافعة عن قانون المصالحة، كما قدّم في نسخته الأولى، أو كما قدّم في صيغ معدلة بفعل الضغط الشبابي والسياسي، وبصرف النظر أيضا عن مدى صواب القراءات الرافضة للقانون، والمتصلة بكونه يرسكل رجال النظام القديم، ويعيد إنتاج مقومات مرحلة سياسية اندلعت ضدها ثورة توصلت إلى تغيير رأس النظام ولم تتوصل للقطع مع الثقافة والعلاقات والبنيات السياسية العميقة للاستبداد، فالمثير في القضية وما استتبعها من تداعيات ومواقف هو موقف حركة النهضة بالتحديد وعلى وجه الدقة.
المكتب التنفيذي للحركة، المشاركة في الحكم كما في المصادقة على القانون، أصدر بلاغا أمس الجمعة (بعد أن اجتمع الخميس) عبّر فيه عن “تثمين مصادقة مجلس نواب الشعب على قانون المصالحة الإدارية الذي تقدّمت به رئاسة الجمهورية”، واستنكر أيضا “ما أقدمت عليه مجموعة صغيرة من النواب من تجاوزات وسلوك غير ديمقراطي عبر أحداث التشويش والهرج في محاولة لمنع المجلس من مواصلة أشغاله ورئيس المجلس من تسيير الجلسة والنواب واللجان من الكلام في حين كان على هؤلاء ممارسة واجبهم كنواب للشعب في نقاش المشروع والتعبير عن رأيهم فيه”.
موقف الحركة، الذي تجلّى في البلاغ الأخير وقبل ذلك بأشهر، لا يتماهى أولا مع موقف القواعد التي واظبت على رفضها للقانون بمختلف صيغه، وكانت تصرّ دائما على رفض عودة رجال النظام القديم. والواضح أن القـواعد لم تبرح مواقعها في رفض النظام القديم بكل أوجهه وتمثلاته، وهو ما كان يتطابق نسبيا مع موقف الحركة ذاتها. لكن تغيير الحركة لمواقفها، صنع مسافة سياسية واضحة بينها وبين قواعدها، المجبولة على الانقياد للقيادة لأسباب عميقة تتصل ببنية العلاقات داخل الحركة الإخوانية. (مبدأ السمع والطاعة والولاء للقيادة مازال ساري المفعول، وهو ما يبدد كل حديث عن تطارح ديمقراطي داخل الحركة).
موقف حركة النهضة من قانون المصالحة يوقعها ثانيا في مطب التناقض مع مواقفها السابقة، حول القضية نفسها وإزاء التجمعيين ورموز النظام القديم. طبيعي أن يغير حزب سياسي من مواقفه تجاه قضية ما لكن ذلك يتطلب بيان دواعي تغيير الموقف وعوامله، أما وقد غيرت الحركة موقفها من النقيض إلى النقيض، من رفض نداء تونس و“التطبيع” مع التجمعيين وصولا إلى رفض قانون المصالحة، إلى الدفاع المحموم عن القانون واستنكار سلوك الرافضين له، فإن هذا يفترض البحث والحفر في الأسباب الحقيقية والخفية، في الانتقال الكبير من المبدئية القديمة، إلى التكتيكات الجديدة أو إكراهات السياسة كما يروّج بعض المبرّرين.
في الأول من أبريل 2013 صرح راشد الغنوشي لقناة فرانس 24 قائلا؛ “إن التونسيين يشعرون أن التجمع الّذي خرج من الباب يمكن أن يعود من نافذة نداء تونس”. في 24 ديسمبر 2014 صرح الغنوشي في حوار لجريدة الخبر الجزائرية قائلا إنه “ليس متخوفا من عودة النظام القديم وأنه من الخطأ اعتبار أن نداء تونس هو التجمع”.
الانتقال الرشيق من معاداة النداء ومؤسسه إلى الدفاع عنه والذود عن مرجعياته وتقاسم إحداثياته، هو ما وضع النهضة في مأزق مع قواعدها. على أن تلك القواعد التي لا تعوزها ثقافة الانتقائية والتعميم، وتأميم الأرباح وخوصصة الخسائر، لم تر ضيرا بدورها في النزوع نحو مواقف تبريرية من قبيل اعتبار نجاح الأغلبية البرلمانية (كتلة النهضة والنداء) في تمرير قانون المصالحة يعود إلى اعتصام الرحيل الذي انتظم في باردو صيف 2013، على خلفية اغتيال محمد البراهمي (الاعتصام الذي جمع التيارات اليسارية والقومية مع قيادات نداء تونس) هو الذي سمح بعودة التجمعيين وهو الذي فرض على النهضة مكرهة التحالف معها تفاديا لاستئصالها (كذا).
هذا الرأي الذي يتداول بكثرة هذه الأيام، والذي لاقى هوى القيادات والقواعد لأنه يعفي الحركة من تحمل عقبات تناقضاتها، يخفي ثقافة فكرية متأصلة تقوم على التبرير والبحث عن الأعذار. ثقافة مشوبة بإرث طويل من المظلومية والطهرانية السياسية.
قانون المصالحة الإدارية، مفصل عسير من التجاذب السياسي في تونس، ومحطة تتكسر عليها العديد من الأشرعة، والاختلاف حوله مشروع وطبيعي، لكنه كان اختبارا لأداء التيارات السياسية بمختلف صنوفها، وأتاح إقامة فرز سياسي، لا يقوم على رفض القانون أو قبوله فقط، بل أيضا على ازدواجية المواقف وتناقضها، وهو ما قد لا تركز عليه القراءات السياسية التي تتعاطى مع سرعة الراهن، لكنه لن ينجو من أحكام التاريخ.
النهضة حاولت أن تكون براغماتية وتنحني لكل الرياح، لكن براغماتيتها المزعومة جعلتها ترقص على أكثر من ساق وهو ما يعني السقوط القريب الحتمي، أدناه في أعين قواعدها.
كاتب وصحافي تونسي