النهضة التونسية.. إعادة تقسيم أدوار بمناورة فصل الدعوي عن السياسي

ليس من حق حركة النهضة أن تمنّ على المجتمع التونسي بقرارها الفصل بين العملين الدعوي والسياسي. بل التونسيون والتونسيات يمنّون عليها، وعلى غيرها من القوى السياسية، بأن منحوها الفرصة، وأن حافظوا على تماسك المجتمع أمام هزّات صراعها على السلطة. النهضة التي يبدو أنها تمر بـ“صحوة موت” وتتحول إلى حزب الغنوشي أبيها الروحي، تتعامل مع قضية فصلها “التكتيكي” بين الديني والسياسي بطريقة احتفالية مستفزة، وكأنها تتفضل وتمنّ على المجتمع التونسي.
وقت متأخر
قصة فصل الدعوي عن السياسي في تنظيمات الإسلام السياسي ليست جديدة. لكنها كانت تطرح أيام تمتّع تلك التنظيمات بشيء من الشرعية “النضالية” الناتجة عن التعاطف المجتمعي والانخداع الديني قبل الربيع العربي. وقتها كانت جماعة الإخوان تلعب دور “الجماعة المظلومة” نتيجة حظرها في مصر، وكان حزب العدالة والتنمية التركي في أوج صعوده مقدما نفسه كتنظيم ريادي يحمل لواء التنوير السياسي والتقدمية الأيديولوجية بين حركات الإسلام السياسي في العالم العربي والإسلامي. لكن الأمور تغيرت بعد الربيع العربي، إذ اكتشفت المجتمعات أن الإسلام السياسي هو الوجه الآخر للاستبداد في المنطقة. وأن التحول الديمقراطي لن يكتمل من دون تفكيك ثنائية “النظام والتنظيم” وتفكيك عنصريها. فالأنظمة الدكتاتورية والتنظيمات الراديكالية شريكان لا يفترقان ووجهان لعملة واحدة.
الغنوشي يقصد بقوله: كنا نخلط الدين بالسياسة عيانا جهارا، والآن سنخلطهما ولكن من وراء حجاب
للتخلف السياسي منبع واحد هو الأصولية الفاشية التي قد تتمظهر في صورة نظام علماني مرة وفي صورة تنظيم ديني مرة أخرى. وقتها، قبل ثورات الربيع، كان الحديث عن فصل العمل الدعوي عن العمل السياسي ممكنا لتعزيز مقبولية الحركات الإسلامية واستقطاب مزيد من المؤيدين عبر ادّعاءات العلمنة ودعايات الانفتاح. والمقصود بفصل الدعوي عن السياسي هو أن يتفرغ من يسمونهم دعاة أو مشايخ أو نشطاء الحركة الدينيين للعمل الدعوي والاجتماعي والخيري ويتفرغ النشطاء السياسيون للعمل السياسي، ويكون هذا التفرغ من خلال مؤسسات منفصلة. لكن كما هو ملاحظ هو فصل “مؤسسي” وليس فصلا “أيديولوجيا” وهذه هي المشكلة. فهم ببساطة يضحكون علينا.
لم تعد أزمة الإسلام السياسي تكتيكية ترتبط بتنظيم المؤسسات أو تخصصات النشطاء بل هي اليوم أزمة “وجودية” ذاتية ترتبط بأمراض التقادم الأيديولوجي والشيخوخة السياسية والتكلّس التنظيمي داخليا، وهي أيضا أزمة موضوعية تتعلق بانطفاء شرعية الإسلام السياسي في المجتمع بعد أن أصبح جزءا أصيلا من الصراعات والتطاحنات الانقسامية والتناحرية والدموية في المنطقة. لم يعد السؤال الموجّه للإسلاميين: لماذا تدمجون الديني بالسياسي؟، بل أصبح السؤال: لماذا يكون لكم دور ديني أساسا؟
إن النهضة مثل أي حركة إسلام سياسي تتصف بصفات خمس متداخلة: الأصولية والشمولية والفاشية والراديكالية والمافيوية. وإصلاحها مستحيل، فالمطلوب والواجب هو تهيئة المناخ اللازم لتفكيكها تماما وتجفيف منابع فكرها، وليس التعاطي معها ومنحها الشرعية وهي تبتكر تكتيكات زائفة مثل فصل الدعوي عن السياسي.
الفرق بين النهضة وداعش هو الفرق بين الكُره والذبح. الكُره ذبح رمزي. عندما أكرهك فأنا ألغيك معنويا أما الذبح فهو إلغاء حسي. النهضة تكره وداعش تذبح. النهضة مهمتها تنظيرية، وداعش مهمتها تنفيذية. لكن الاستراتيجية واحدة والأصول واحدة والمرجعية واحدة والمنبع واحد. والكراهية هي البيئة المؤاتية لكل أشكال الذبح. فحركات تسمّي نفسها “وسطية” و”معتدلة” زورا وبهتانا مثل النهضة هي التي تمهّد المناخ اللازم للذبح الداعشي. الوسطية الحقيقية هي العلمانية التي لا تستخدم إسلاما أو مسيحية أو بوذية، والاعتدال الحقيقي هو المواطنية التي لا تفرق بين مسلم وغيره، إخواني وسواه.
|
الديني والسياسي
يرى المفكر مراد وهبة أن “العلمانية هي التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق”. والواقع أن مسرحية فصل الدعوي عن السياسي لا تقرّ فصلا بين المطلق الديني والنسبي السياسي بل تتحايل عليه وتلتف على مطلوب العلمنة الصريحة. يقول رفيق عبدالسلام وزير الخارجية التونسي السابق وعضو المكتب التنفيذي لحركة النهضة (وصهر الغنوشي) إن الحركة تتجه لما أسماه “التخصص الوظيفي” في إطار “حزب مدني يعتمد المرجعية والثوابت الإسلامية والعربية للبلد”. ومصطلح “التخصص الوظيفي” مُراوغ ومخاتل لاسترضاء أعضاء الحركة المحافظين وصقورها وعموم المنتمين للتيار الإسلامي كالقوى السلفية خارج النهضة وللإبقاء على التماهي مع أيديولوجيا التنظيم العالمي للإسلام السياسي. بمعنى أنه ليس فصلا أيديولوجياً في البنية الفكرية للحركة بين الديني والسياسي. كما أن في استخدام مصطلح “المرجعية والثوابت الإسلامية” تطفلا على المعتقدات الدينية للمواطنين والتي يفترض أن تبقى خارج إطار اللعبة السياسية في أي علمانية ديمقراطية تحترم نفسها. ثم تعود الحركة لتتطفل على المواطنين فتبيعهم الدين الذي اختطفته منهم في صيغة برنامج سياسي.
إن المرجعية الوحيدة المعتبرة في العمل السياسي هي “المصلحة العامة” كما أن السياسة لا ثوابت فيها. وحتى “ثوابت الإسلام” مختلف عليها بين التيارات والمذاهب، فمفاهيم كالمرجعية والثوابت لا تحل الإشكالية لكنها تزيد التعقيد إذ لا يخبرنا السيد عبدالسلام عن “السلطة” التي تمتلك “صلاحية” تحديد مفهوم أو كيفية اتّباع “المرجعية” الإسلامية أو تقويم مدى الالتزام بـ“الثوابت”. فإذا قال إن المؤسسة الدينية هي المسؤولة عن ذلك فسندخل في دهاليز ولاية فقيه سنية، كما أن تكليف المؤسسة الدينية بشأن سياسي باعتبارها تمثل المواطنين دينيا هو إلغاء لفكرة الديمقراطية من الأساس وتقويض لحق المواطنين كأفراد في التعبير عن أنفسهم مباشرة باعتبار أن الشعب، وليس المؤسسة الدينية أو راشد الغنوشي، هو مصدر السلطات والحاكمية والشرعية.
كما أن الثوابت العقائدية للأديان مُلزمة للمؤمنين بها بشكل فردي وليست مُلزمة لعموم المجتمع. العمل الحزبي نشاط سلطوي وليس من حق أي سلطة أن تفرض على الجمهور مفهوما معينا للدين أو الإسلام. كما أن النهضة تتطفل على المجتمع المدني عندما تقول إن المهام الدعوية للحركة سيتولاها المجتمع المدني؛ بمعنى أن الجمعيات الدينية والخيرية ستكون واجهات دينية لحركة النهضة بما يسمح بالتنسيق بين الطرفين لأغراض التحشيد في الانتخابات مثلا. وهو ما لم يتردد عبدالسلام في الإفصاح عنه بسذاجة متناهية وتهافت عندما أشار إلى أن تفرغ حزبه للعمل السياسي سيقترن بإحالة بقية المكونات إلى المجتمعات المدنية بحيث تكون “مندرجة في منظمات وهيئات مستقلة عن الحزب السياسي”.
خطوة حركة النهضة جاءت مثيرة للشفقة من أيديولوجيا تجاوزها التاريخ، فالإسلام السياسي يولد مريضا يحمل جرثومة فنائه في داخله
تلاعب في الخطاب
جاءت خطوة حركة النهضة مثيرة للشفقة من أيديولوجيا تجاوزها التاريخ، فالإسلام السياسي يولد مريضا يحمل جرثومة فنائه في داخله؛ أيديولوجيا تعاني من تشوهات خَلقية لم تنجح كل أشكال الجراحة التقويمية والتجميلية في علاجها. فبعد كل هذا الدم الذي يلطخ الأثواب والشاشات وألعاب الأطفال، ألم يحن للإسلاميين أن يأخذوا إجازة من الكذب والخداع والتدليس والنفاق وقول الزور؟ الغنوشي يضحك علينا عندما يحتكر لنفسه “سلطة” و“صلاحية” فصل الدعوي عن السياسي، فهو يقول لنا، كنا نخلط الدين بالسياسة عيانا جهارا، والآن لن نفعل ذلك، سنخلطهما ولكن من وراء حجاب، أو أن استخدام الدين في السياسة والانتخابات والسعي للسلطة سيكون أكثر تذاكيا واستغفالا وحرفنة. ثم ماذا عن البنية التنظيمية لحزب النهضة التي “كانت” تخلط الدين بالسياسة، هل سيتم تفكيكها؟
إن أزمة الأحزاب الإسلامية “بنيوية” في قيمها وثقافتها وانغلاقها وعنصريتها وأصوليتها وفاشيتها، قبل أن تكون في “تكتيكاتها” السياسية والإعلامية التي تدمج الدعوي بالسياسي أو تفصل بينهما.
الطريقة الوحيدة ليختم بها شخص مثل الغنوشي حياته هي الاعتذار من المجتمع وحلّ حزبه والاستقالة من تجارة الوهم والصعود إلى السلطة على سلالم من الأساطير.
لنسأل مرة أخرى: ماذا يعني فصل الدعوي عن السياسي؟ إنه اعتراف بأنهم كانوا يستخدمون الدين والدعوة لأغراض سياسية. وهو اعتراف بأنهم مستمرون في استخدام الدين في السياسة ولكن بصيغة جديدة تتضمن الفصل “الوظيفي” وليس “البنيوي” بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية. إن تغيير الذات الحزبية ضرورة لكن يفترض أن يكون على مقاس المجتمع لا على مقاس الأيديولوجيا. فصل الدعوي عن السياسي هو تكتيك يهدف لإنعاش أيديولوجيا ميتة وتنظيم مُتيبِّس. لو كان الإسلاميون يريدون المصلحة العامة فعليهم تعديل الأيديولوجيا جوهريا باتجاه التخلي التام عن استخدام الدين واعتناق علمانية صريحة.
كاتب عراقي مقيم في لندن