النموذج الإماراتي المسؤول يفتح الباب أمام تعميم الطاقة النووية في الخليج

محطة "براكة" رافعة لبداية عصر نووي خليجي جديد.
الجمعة 2025/04/18
الطاقة النووية الإماراتية مشروع تنموي شفاف

تقدم الإمارات من خلال تجربتها في الطاقة النووية نموذجا مدنيا مسؤولا يمكن لدول الخليج الاقتداء به. وبينما تسعى الولايات المتحدة لتعزيز حضورها في المنطقة، يبرز تعميم هذا النموذج كفرصة إستراتيجية لتعزيز الأمن والاستقرار عبر بوابة التنمية. وكما مثلت محطة "براكة" نقطة تحول في الإمارات، قد تشكل بداية لعصر نووي خليجي جديد يقوم على الشفافية والتعاون.

أبوظبي - بينما يتجه العالم بخطى متسارعة نحو مصادر الطاقة منخفضة الكربون لمواجهة تحديات المناخ والتوسع الرقمي، تكتسب التجربة الإماراتية في الطاقة النووية بعدا يتجاوز حدودها الجغرافية، لتتحول إلى مرجعية يمكن البناء عليها لتعميم استخدام الطاقة النووية المدنية في منطقة الخليج.

وتمثل الزيارة التي أجراها وزير الطاقة الأميركي كريس رايت إلى محطة “براكة” النووية في أبوظبي الأسبوع الماضي، لحظة مناسبة لإعادة تقييم ملامح هذا النموذج الرائد، وفرص نقله إلى دول أخرى في المنطقة، لاسيما في ظل تصاعد المنافسة الدولية على النفوذ في الأسواق الناشئة من بوابة التكنولوجيا النووية.

وقدمت الإمارات، باعتبارها الدولة الخليجية الأولى والوحيدة التي أنشأت بنجاح محطة طاقة نووية مدنية متكاملة، نموذجا يستند إلى الوضوح، والالتزام بالمعايير الدولية، والتعاون الشفاف مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

ومنذ إطلاق وثيقتها السياسية عام 2008، وضعت أبوظبي إطارا واضحا للبرنامج النووي السلمي، يقوم على ستة مبادئ أساسية، تشمل حظر الانتشار، وتعزيز السلامة، والتعاون مع جهات دولية مسؤولة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. وقد تُوّج هذا المسار بتشغيل المفاعل الرابع في محطة “براكة” في سبتمبر 2024، لتصل قدرة المحطة إلى 5.6 غيغاواط، تغطي قرابة ربع الطلب المحلي على الكهرباء، وتشكل العمود الفقري للطاقة النظيفة في الإمارات.

ولا تكمن القيمة في التكنولوجيا وحدها، بل في المنهج السياسي والقانوني الذي تبنته الإمارات، والذي جعل من الطاقة النووية مشروعا تنمويا شفافا بعيدا عن الشبهات وهو ما مكنها من توقيع “اتفاقية 123” مع واشنطن، ما سمح بنقل التقنية والخبرة الأميركية مع ضمانات حقيقية بعدم الانتشار.

وتقول نعوم ريدان، وهي زميلة أقدم في معهد واشنطن، إن هذا المسار يوفر نموذجا قابلا للتطبيق في دول خليجية أخرى، تبحث عن مصادر طاقة مستقرة، وآمنة، وتتماشى مع أهدافها في خفض الانبعاثات وتعزيز النمو الصناعي والرقمي.

وباتت الفرصة التي يطرحها النموذج الإماراتي أكثر إلحاحا اليوم، في ظل اهتمام دول المنطقة بإطلاق مشاريع طاقة نووية خاصة بها. فالسعودية، على سبيل المثال، تُعد الطاقة النووية جزءا أساسيا من إستراتيجيتها الوطنية للطاقة، وتضعها على طاولة مفاوضات واسعة مع الولايات المتحدة تشمل اتفاقا دفاعيا وأمنيا طويل الأمد.

كريس رايت: اتفاق مبدئي للتعاون في تطوير الصناعة النووية بالسعودية
كريس رايت: اتفاق مبدئي للتعاون في تطوير الصناعة النووية بالسعودية

ومع اتساع الطموحات الخليجية لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وتنويع مزيج الطاقة، تبرز الحاجة إلى مرجعية واضحة ومجربة، تتجنب السيناريوهات الغامضة أو التنافس الجيوسياسي المقلق، وتضع الأولوية للشفافية والتعاون المؤسسي. وترى ريدان أن جولة المبعوث الأميركي في الخليج تمثل فرصة للولايات المتحدة لتعزيز شراكتها الإستراتيجية مع حلفائها في مجال الطاقة النووية السلمية.

وبينما تتقدم بكين وموسكو بخطى ثابتة في تقديم التكنولوجيا النووية لبلدان في أفريقيا وآسيا وأوروبا الشرقية، تحتاج واشنطن إلى استعادة زخمها كمصدر موثوق للطاقة النووية السلمية. وهنا، تبرز أهمية ما يمكن تسميته “الدبلوماسية النووية الإيجابية”، والتي تقوم على تصدير الخبرة والمسؤولية بدلا من الاكتفاء بالتحذير من المخاطر. وفي هذا السياق، يصبح دعم برامج على شاكلة المشروع الإماراتي أداة إستراتيجية لتعزيز المصالح الأميركية في المنطقة، وبناء شبكات نفوذ طويلة الأمد، تتجاوز البعد الأمني التقليدي.

ويفتح استعداد الإمارات للاستثمار في مشاريع نووية خارج حدودها، بما في ذلك السوق الأميركية، أفقا جديدا للتعاون العابر للحدود. ويمكن لمثل هذا التعاون أن يُمهّد لتحالفات تقنية وصناعية جديدة، خاصة في ظل الطموحات الإماراتية للتحول إلى مركز عالمي للذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة. ويعزز هذا من مكانة الطاقة النووية كمحور مشترك للتكامل الاقتصادي والتنموي، بعيدا عن الخطابات الأيديولوجية أو الانقسامات السياسية.

وبينما تسرّع الصين وروسيا من خطواتهما لتقديم المفاعلات النووية الجاهزة للدول النامية، تستند واشنطن إلى ميزة التفوق النوعي في بناء أنظمة نووية آمنة ومنضبطة.

ويتيح نجاح الإمارات إمكانية تحويل هذا التفوق إلى شراكات إقليمية ذات طابع طويل الأمد، يمكن أن تشمل الدعم الفني، ونقل المعرفة، وإنشاء أطر حوكمة نووية مشتركة في الخليج، ما يعزز أمن الطاقة ويحصّن المنطقة من الانزلاق نحو سباقات نووية غير آمنة. لكن تعميم النموذج الإماراتي لن يكون مهمة تقنية فحسب، بل يتطلب أيضا توافر إرادة سياسية لدى دول الخليج، واستعدادا للالتزام بنفس الشروط التي التزمت بها أبوظبي.

وفي مقابل الحصول على دعم أميركي واسع النطاق، تخلّت الإمارات عن أي طموحات تتعارض مع معايير حظر الانتشار، واندمجت بعمق في المنظومة الدولية للطاقة النووية المدنية. وبالتالي، فإن تعميم هذا النموذج لا يعني فقط تكرار البنية التحتية، بل استيعاب الإطار المؤسسي والقانوني الذي سمح له بالنجاح.

ومع أن الطاقة النووية تواجه تحديات مثل كلفة البناء العالية وطول زمن الإنجاز، إلا أنها تظل واحدة من أكثر مصادر الطاقة موثوقية ومرونة، خاصة في الاستخدامات الصناعية والتقنية المتقدمة.

وبالإضافة إلى كونها مصدرا منخفض الانبعاثات الكربونية، توفّر محطات الطاقة النووية تدفقا موثوقا ومرنا للطاقة، يمكن التحكم فيه حسب الحاجة إلى شبكة الكهرباء أو إلى استخدامات أخرى. وهذا يميزها عن مصادر الطاقة المتجددة، التي لا تزال حتى الآن تنتج الكهرباء بشكل متقطع، رغم أن هناك تطورات جارية في مجال بطاريات التخزين على نطاق الشبكات قد تساهم مستقبلا في تجاوز هذا القيد، وإن كانت تحمل تحدياتها الخاصة.

◙ الفرصة التي يطرحها النموذج الإماراتي باتت أكثر إلحاحا، في ظل اهتمام دول المنطقة بإطلاق مشاريع طاقة نووية

وبالمقارنة مع مصادر الطاقة الأخرى مثل الغاز الطبيعي، الفحم، الطاقة الشمسية، والرياح، تعد الطاقة النووية الأعلى من حيث عامل الاستطاعة، وهو مقياس للإنتاج الفعلي لأي محطة طاقة مقارنة بالكمية القصوى التي يمكن إنتاجها خلال فترة زمنية معينة وبشكل غير متقطع. كما أن محطات الطاقة النووية متعددة الاستخدامات، فعلى سبيل المثال، يمكن الاستفادة من الحرارة الزائدة الناتجة عنها في تطبيقات صناعية مثل صقل وتنقية المعادن.

ومع ازدهار تطبيقات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية ومراكز البيانات في الخليج، تتزايد الحاجة إلى طاقة مستقرة وغير منقطعة، وهو ما لا تستطيع الطاقة المتجددة بمفردها توفيره حتى الآن. وبالتالي، فإن دخول الطاقة النووية إلى مزيج الطاقة الخليجي بات ضرورة إستراتيجية، وليس مجرد خيار تقني.

وتظهر تجربة محطة “براكة” أيضا كيف يمكن للمفاعلات النووية أن تكون جزءا من القوة الناعمة للدول. فبفضل شفافيتها، أصبحت الإمارات لاعبا معترفا به في الساحة النووية العالمية، وشاركت بفعالية في المبادرات الدولية، كما في إعلان “مضاعفة الطاقة النووية ثلاث مرات” خلال مؤتمر المناخ كوب – 28. ويمكن لهذا الدور أن يتكرر في دول خليجية أخرى، شريطة توفر الشفافية والحوكمة الرشيدة، وهو ما يُعزز أمن الطاقة الإقليمي ويدعم التنمية الاقتصادية المستدامة.

وخلال زيارته إلى المملكة العربية السعودية في الثالث عشر من أبريل – وهي زيارة تُعد جزئيا تحضيرا لجولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المقررة في منتصف مايو في منطقة الخليج – أعلن وزير الطاقة الأميركي عن التوصل إلى اتفاق مبدئي للتعاون في تطوير الصناعة النووية المدنية في المملكة العربية السعودية. وأشار إلى أن البلدين كانا على “مسار” للتوصل إلى مثل هذا الاتفاق وأن المزيد من التفاصيل ستأتي “في وقت لاحق من العام”.

وعلى ما يبدو أن رايت كان قلقا من الخطر المحتمل لانتشار السلاح النووي السعودي، حيث صرح أيضا بأنه سيكون هناك أيضا “اتفاقية 123” النووية، في إشارة إلى القسم الذي يحمل الاسم نفسه من قانون الطاقة الذرية الأميركي لعام 1954، والذي يشترط وجود ضمانات رسمية لمنع الانتشار النووي قبل أن يسمح للوكالات أو الشركات الأميركية بالمساهمة في إنشاء صناعة نووية مدنية في أي بلد.

6