النقوش الصخرية في سلطنة عمان تكشف تكيّف الإنسان مع محيطه

مسقط - ينتشر الفن الصخري بسلطنة عمان في مناطق جغرافية متعددة، وتركز بشكل خاص في المناطق الجبلية من مسندم شمالًا إلى ظفار جنوبًا. ويتوزع هذا الفن عبر مدرستين مختلفتين؛ الأولى في جبال الحجر شمالًا حيث يتم النقش باستخدام الطَّرق أو الحفر، بينما الثانية في جبال ظفار التي تعتمد على رسومات خطية باستخدام التلوين. ويعكس هذا الفن جوانب من الحياة اليومية للإنسان القديم، مثل الأسلحة الحربية والمصائد المستخدمة لصيد الحيوانات البرية.
ومن خلال دراسة النقوش الصخرية يتبين أن الإنسان العماني القديم كان يعبّر عن مشاعره ويوثق لحظاته عبر أشكال رمزية، كما أظهرت الرسوم الصخرية صورًا للأسلحة مثل السيوف والرماح والدروع. وتشير بعض النقوش إلى الرموز الدينية، مثل النجمة والثعبان والوعل، بالإضافة إلى بعض الكتابات التي تعود إلى قرون مضت. وتلفت الدراسات إلى أن الكتابات الصخرية كانت قليلة مقارنة بالرسوم الرمزية التي كانت أكثر انتشارًا.
واستخدم الإنسان القديم عدة تقنيات لتنفيذ هذه الرسوم، مثل الطَّرق باستخدام رأس حجر لترك علامات على الصخر، أو الحك بواسطة أدوات حديدية أو حجرية. كما استخدم التنقيط؛ وهو رسم النقاط المتجاورة لإنشاء أشكال دقيقة. وفي بعض الأحيان تم استخدام الكشط أو الحز في الرسومات لإظهار التفاصيل الدقيقة. وتعد الرسوم الملونة أكثر قدما، حيث استخدم البدو في العصور القديمة مواد مثل الجير والمغرة.
بعض النقوش تشير إلى الرموز الدينية، مثل النجمة والثعبان والوعل، بالإضافة إلى بعض الكتابات التي تعود إلى قرون مضت
والفن الصخري العماني يعكس أسلوبين رئيسيين: الأسلوب المثالي أو الرمزي الذي يظهر في رسوم العصر الحجري القديم، والأسلوب الواقعي الذي بدأ في أواخر العصر الحجري الحديث واستمر حتى العصر الفينيقي. وتتعدد أشكال الرسوم الصخرية في عمان، وهو ما يتيح للباحثين تحديد خصائص الأسلوب الفني وفقًا للفترة الزمنية والمكان.
ويشير الباحث حبيب بن مرهون الهادي إلى أن الفن الصخري في عمان يقدم شواهد رمزية تعكس التكيف مع البيئة والمجتمع؛ حيث ارتبط هذا الفن بالعقيدة والدين، وكان له مغزى سِحري يعكس التأثيرات الروحية في المجتمعات القديمة، لاسيما بين الطبقة الحاكمة ورجال الدين. لكن يصعب في بعض الأحيان فهم دلالات هذه الرموز نظرًا لتجريدها وعناصرها الهندسية الغامضة.
واكتشفت الكثير من النقوش الصخرية في عمان، والتي تشير إلى الفترة الزمنية التي تمثلها، حيث تعود بعض الرسوم إلى العصر الحجري الحديث (من 9000 إلى 4500 قبل الميلاد)، وهي تتميز بالواقعية. كما تلفت بعض الدراسات إلى أن عمان كانت موطنًا لكتابات مسندية تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد. وتستمر النقوش الصخرية في عمان حتى العصر الإسلامي، حيث تم اكتشاف كتابات عربية قديمة تتعلق بتوثيق أحداث سياسية واقتصادية.
وشهدت عُمان تطورًا في الفن الصخري عبر العصور، حيث أظهرت النقوش المختلفة تطورًا في الكتابة ورمزية الرسوم. ويبرز الفن الصخري العماني كمرآة تعكس الحضارات القديمة واهتمامات الإنسان العماني في تلك الفترات.
وتطرق الباحث سليمان بن صالح الراشدي إلى أهمية استدامة الفن الصخري، نظرا لما تتضمنه المواقع التاريخية من لوحات صخرية لرسومات ونقوش ومنحوتات وكتابات في الملاجئ الصخرية والكهوف والسلاسل الجبلية ومجاري الأودية وغيرها، ممثلة تراثا روحيا وثقافيا ومعرفيا غنيا للحضارة البشرية بشكل عام.
وبالرغم من أهمية الفن الصخري إلا أن الكثير من مواقعه تتعرض لمخاطر تهدد بقاءه واستمراره، سواء كانت تلك المهددات والمخاطر طبيعية كعمليات التعرية والتجوية والأتربة وجريان المياه وتأثير العواصف والأعاصير وغيرها، أو مهددات بشرية كإقامة المشاريع الإنشائية والتوسع في المجمعات السكنية.

ويوضح الباحث قائلا “يمكننا أن نورد مجموعة من المبادئ لتمثل أساس استدامة الفن الصخري، والتي من أهمها: الاهتمام بالفن الصخري باعتباره قيمة تراثية مهمة لجميع فئات المجتمع، وتخصيص موارد كافية، وإيجاد منظومة متكاملة لإدارة مواقع الفن الصخري، وحماية جميع مكوناته، مع النظر إلى الفن الصخري باعتباره جزءا من المشهد الثقافي للمجتمع ومكملا للمناظر الطبيعية المهمة، واعتباره من الكنوز الثقافية التي تتطلب إيجاد قانون ينظم عملية التعامل معه وصونه والحقوق والممارسات الثقافية التي ترتبط به، وإشراك المجتمع المحلي وتمكينه في إدارة الفن الصخري والحفاظ عليه وتوعيته بما يؤدي إلى استدامته.”
وبيّن أن المؤسسات الرسمية في سلطنة عُمان سعت إلى إبراز تاريخها الحضاري من خلال الفن الصخري، وذلك عبر التنقيب عن الآثار المتمثلة في الفن الصخري، إضافة إلى رسم خطط وخرائط مستقبلية للبحث والتنقيب والتنسيق مع مختلف البعثات، وإقامة دورات متعددة في هذا المجال، مع العمل على إيجاد سلسلة دراسات فـي مجـال الآثار والتاريخ القديم، وعلى سبيل المثال لا الحصر تم إصدار خمسة مجلدات تأريخية تمثل حصيلة المسوحات وأعمال التنقيب التي يتم إنجازها في مناطق متعددة من سلطنة عُمان.
وأشار الراشدي إلى أهمية حماية الفن الصخري كتراث يسهم في جذب السياح والاستفادة منه في رفد الاقتصاد الوطني من خلال توعية المجتمع وإيجاد رؤية لاستدامة الفن الصخري كمواقع سياحية، مع استثماره في مجال التعليم، من خلال تضمين بعض جوانب الفن الصخري في مقررات دراسية مرتبطة بمادة التربية الفنية، للإفادة من جماليات هذا الفن.
ولفت إلى أن للفن الصخري في سلطنة عُمان، بكل مكوناته من رسومات ونقوش وكتابات عربية قديمة وحديثة ورموز وحروف، دورا ملموسا في صناعة السياحة التراثية، كما أن انتشار مقاطع وصور للفن الصخري بوسائل التواصل الاجتماعي أعطى فرصة لبروزه وأظهر دوره في جذب السياح فيما يمكن تسميته بالسياحة التراثية.
وهناك مبادرات للترويج لهذا الفن باعتباره جزءًا من التراث الثقافي العماني، وهو ما من شأنه أن يساعد أيضا على جذب السياح والمساهمة في الاقتصاد الوطني. كما يمكن استخدام الفن الصخري في التعليم من خلال إدراجه في المناهج الدراسية المتعلقة بالتربية الفنية، ما يعزز تقدير الشباب لهذا الفن العريق.
