النظام المصري غير مستعجل أيضا للتقارب مع تركيا

لم يكن كلام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن تأجيل التقارب مع مصر، إلى ما بعد الانتخابات التركية المقررة في يونيو القادم، مفاجئا للقاهرة، فهي نفسها ليست متحمسة لهذا التقارب خاصة بعد أن فشلت مساعيها لدفع أردوغان إلى خطوات أكثر وضوحا وحسم تردده في ملف الإخوان.
أشارت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشأن إعادة النظر في علاقات بلاده مع مصر عقب إجراء الانتخابات الرئاسية في يونيو المقبل إلى عدم حدوث تطور إيجابي قبل هذا التاريخ، بما لا يمنع حدوث توترات الفترة المقبلة، وأوحى كلامه المختصر أن أنقرة وحدها تقرر متى تتقدم أو تحجم مع القاهرة.
تكذّب المعطيات التي توافرت على مدار العامين الماضيين الاستنتاج السابق، لأن غالبية الرسائل في ملف التقارب بين البلدين جاءت أولا من تركيا، وفي سياق إقليمي عام لا يقتصر على مصر، حيث ظهر تحسن ملحوظ في العلاقات مع السعودية والإمارات وإسرائيل، إلى جانب محاولات تهدئة متقطعة مع النظام السوري.
جاء استثناء مصر (ومعها سوريا) من حدوث تقدم الأشهر المقبلة من عدم تلقي النظام التركي ما يعزز قناعاته بأن التحسن مع مصر بات وشيكا كما كان يسعى، فكل ردود الفعل التي تلقّاها من القاهرة جاءت مصحوبة بشكوك في نواياه السياسية، ومصحوبة بتحفظات حول الطريقة التي يتعامل بها مع قضايا كانت سببا في التوتر.
لم يبد النظام المصري استعجالا أو يقدم على تحركات قوية من أيّ نوع حول تطبيع العلاقات مع نظيره التركي، على العكس كان حذرا ومتريثا ومترددا أكثر من اللازم، بما يعني أن كل الخطوات التي أقدمت عليها أنقرة وأدرجتها في عداد التحركات الرامية لطي صفحة الماضي لم تكن كافية للطرف المقابل، ومن الصعوبة مبادلة الود بود أكثر منه أو مساويا له في المقدار وسط تصرفات تحوي رمادية أحيانا.
عندما وجد أردوغان أن الطريق مع مصر مسدود، أو شبه مسدود، تغافل عن دراسة الأسباب العملية التي أدت إلى هذه النتيجة، وسعى نحو القفز عليها بالحديث عن تأجيل إلى ما بعد إجراء انتخابات مصيرية يخوضها الرجل وبموجبها سوف يتحدد إلى أيّ درجة يستطيع حزب العدالة والتنمية الحاكم أن يستمر في القبض على زمام الأمور.
تكمن نقطة الخلاف المركزية في ملف الإخوان، حيث ظهرت أنقرة فيه كمن تقدم قدما وتؤخر الثانية، فرغم الإعلان عن غلق قنوات تابعة للجماعة في إسطنبول وتضييق الخناق على بعضها وطرد إعلاميين محسوبين عليها، إلا أنها لم تستجب لكل ما أرادته القاهرة بشأن غلق جميع الأبواب الإعلامية والمنافذ السياسية.
وتفرض المطالب المصرية على تركيا القيام بإنهاء هذا الملف تماما من خلال تسليم بعض القيادات الصادرة في حقهم أحكام قضائية في مصر، ورفع يديها عن الاستثمار في الجماعة كأداة من أدواتها السياسية، وتقديم ما يثبت أنها اتخذت الإجراءات اللازمة في هذا المجال، وهو ما لا تستطيع أنقرة التجاوب معه قبل الانتخابات.
ينطوي ربط أردوغان استئناف الحديث مع مصر بالانتخابات على دلالة مهمة، فمعظم المطالب التي وضعتها القاهرة على الطاولة ولها علاقة قوية بالإخوان من الصعوبة تنفيذها قبل الانتخابات، فهناك جناح إخواني مؤثر في الحزب الحاكم يرفض ذلك، ويعتقد أن أضراره ستكون كبيرة على صورته في الشارع.
فهناك شريحة انتخابية لا يستهان بها لن تقبل بتقديم تنازلات في ملف الإخوان، وأيّ خطوة توحي بالاستجابة للقاهرة وتنال من الفرع المصري للجماعة في تركيا قد تؤدي إلى أضرار بالغة يمكن أن تنعكس ملامحها السلبية على نتائج الانتخابات عبر تصويت احتجاجي يصب في صالح خصوم الرئيس أردوغان وحزبه.
من هذه الزاوية يمكن تفسير إشارة الرئيس التركي لتأخير النظر في ملف العلاقات مع مصر، والذي كان محل اهتمام كبير من جانب أنقرة دون اهتمام مواز من القاهرة، والتي كانت تقديراتها السياسية إجمالا لا تميل إلى الثقة في تحركات أنقرة.
كشفت تصريحات لوزير الخارجية المصري سامح شكري مؤخرا حالة عدم الرضا على حصيلة الموقف مع تركيا عندما ألمح فجأة إلى تجميد العلاقات عند المستوى الذي وصلت إليه في جولتي مفاوضات إحداهما في القاهرة والأخرى في أنقرة العام الماضي، وهو مستوى يصب في خانة الحفاظ على الهدوء بلا أفق يشير إلى تجاوزه.
كانت الحسابات الأمنية أكثر تفاؤلا من السياسية لأنها منعت حدوث احتكاكات مباشرة على الأراضي الليبية بين الطرفين بعد أن كثفت تركيا من وجودها العسكري في طرابلس ومدت بصرها الأمني إلى الشرق، وأبعدت التفاهمات الاستخباراتية أيّ تحرش بين قوات البحرية التابعة للبلدين في شرق البحر المتوسط بعد أن بالغت تركيا في التلويح بدبلوماسية البوارج الحربية، ولم تتأثر أو تهتز هذه الصيغة بالجمود السياسي.
ألمحت تصريحات أردوغان بشأن تأجيل مناقشة ملف العلاقات مع مصر إلى أنه سيعود إليه بعد الانتخابات دون أن يحدد طبيعة العودة، فقد تكون إيجابية أو سلبية، ما يعني ربط التطور أو التأخر بالخارطة التي تحدد معالمها هذه الانتخابات وتتعلق في مجملها بتوازنات القوى في حزب العدالة والتنمية ومركز الجناح الإخواني داخله.
يبدو التجميد الوصف الأكثر دقة للعلاقات بين البلدين في المرحلة الراهنة، وسواء أكان بذريعة إعادة التقييم أم عبور انتخابات صعبة يخوضها أردوغان ويعوّل عليها لاستكمال مشروعه السياسي ذي المكونات الأيديولوجية، ففي الحالتين ثمة مطبات داخلية وخارجية يريد الرجل أن يتجاوزها في الأشهر المقبلة.
ولا يخلو تبريد ملف العلاقات المشتركة من تسخين إخواني محتمل، وربما يريد أردوغان أن تكون يداه بيضاء وليس له علاقة مباشرة بأيّ سخونة كي يتجنب الزج به من قبل مصر، والسعودية والإمارات، وهي الدول الثلاث الأكثر انزعاجا في المنطقة من ضخ دماء جديدة في عروق تيار الإسلام السياسي.
يسعى أردوغان إلى الوقوف عند منتصف نقطة إيجابية وصل إليها مع الدول الثلاث، تتفاوت درجاتها، فما حدث من تقدم معها لم يحقق الغرض الكبير منه في توفير درجة عالية من الهدوء السياسي مع الدول الثلاث، وتدفق استثمارات ضخمة من السعودية والإمارات.
◄ النظام المصري لم يبد استعجالا أو يقدم على تحركات قوية من أيّ نوع حول تطبيع العلاقات مع نظيره التركي، على العكس كان حذرا ومتريثا ومترددا أكثر من اللازم
أراد أردوغان من وراء خص مصر بالتعثر والغمز من نافذة أن الخلافات معها تحتاج إلى وقت، وكذلك بالفصل بينها وبين السعودية والإمارات، والتأكيد على عدم وجود مشاكل معهما حاليا، وأن العقدة تكمن في الآلية التي تستخدمها القاهرة وليس في أنقرة.
الواضح أن حسابات الرئيس التركي حيال الفصل بين كل المسارات في علاقاته الإقليمية حصل منها على نتيجة جيدة في حالتي السعودية والإمارات لأنهما غير مكبلتين بقيود إقليمية كبيرة تحرمهما من القيام بهامش كبير للحركة في المنطقة.
بينما مصر تريد ألا يكون تحسّن علاقاتها مع تركيا على حساب اليونان وقبرص أو يتسبب في تهديد التحالف معهما في شرق المتوسط، كما يريد أردوغان، وهي عقدة أخرى تحتاج إلى المزيد من الوقت لتفكيك قيودها من دون إضرار بثوابت القاهرة.