النظام التركي ووسائل الإعلام: من ليس معي فهو ضدي

أنقرة - عندما قرر ضباط الجيش الذين حاولوا إسقاط الحكومة التركية البدء في عملية الانقلاب، اختاروا الاستيلاء على أهداف تقليدية يقع الاعتماد عليها أثناء الانقلابات العسكرية، يأتي على رأسها التلفزيون الحكومي وشبكة الاتصال عبر القمر الصناعي؛ لكن هذا الانقلاب الذي نفذ بعقلية السبعينات لم ينجح في أن يحقق الهدف في عصر تكنولوجيا وسائل التواصل الاجتماعي.
في خضم التطورات الحاصلة على وقع إعلان الانقلاب العسكري في تركيا، يوم 15 يوليو، لم يجد أردوغان غير تطبيق “فايس تايم” الذي تواصل من خلاله مع مذيعة قناة “سي إن إن ترك”، ليحث الأتراك على النزول إلى الساحات العمومية والشوارع. وبعد ذلك نشر أردوغان تغريدة على تيوتر تابعها في وقت قياسي 8.6 مليون من متابعيه. ونشر تدوينة أخرى على صفحته الخاصة على فيسبوك، واعتمد مساعدوه على تطبيق “واتس آب” للبقاء على اتصال مع بعضهم البعض، حيث كانوا يسعون إلى استعادة السيطرة على الوضع.
وسرعان ما صدحت أصوات أئمة المساجد المحلية عبر مكبرات الصوت لدعوة المواطنين للخروج إلى الشوارع، مما أدى إلى تضخيم الدعم الشعبي للحكومة والذي تم نقله على المباشر عبر تطبيقات مثل فيسبوك لايف وتطبيق بريسكوب التابع لتويتر.
ووصف مرهول سريفاستافان، مراسل صحيفة فاينانشل تايمز من إسطنبول، هذا التفاعل بين وسائل التواصل التقليدية والحديثة بأنه تركيبة فعّالة بين ما هو قديم وما هو جديد، فكانت هذه التطبيقات بمثابة “صفارة التنفس” لنظام أردوغان الذي كاد يهوي. وقد ساعد الاستيلاء الماكر على اهتمام الجمهور والذي تم في الوقت المناسب في كسب المزيد من الوقت، حيث تمكنت جماعات موالية له من القوات العسكرية في إضعاف الانقلاب. وقال أكين أونفر، أستاذ مساعد في العلاقات الدولية في جامعة كادير هاس، إن “استخدام الأئمة ووسائل التواصل الاجتماعي منحا الحكومة التفوق ومكّنا أردوغان من إحداث حراك مضاد والوصول إلى جمهور واسع في وقت قصير”. وأضاف أونفر “تبنت الحكومة مزيجا مثيرا للاهتمام في التواصل بين الأساليب التقليدية وأساليب القرن الحادي والعشرين”.
ويذهب خبراء إلى القول إنها مفارقة أن يكون تطبيق أبل “فيس تايم” “منقذ” سلطة الرئيس التركي المعروف عنه أنه من أكثر المعادين لوسائل التواصل الاجتماعي وقد عمل جاهدا على إخراس صوتها وتكميم أفواهها، لأنها كانت الوسيلة الرئيسية لمعارضيه ليعبّروا على آرائهم.
الحكومة تسيطر على جزء كبير من الإعلام وبالنسبة إلى من لم تستطع السيطرة عليهم فهم مهددون بالسجن أو الاستجواب
وكتبت زينب توفاكجي، وهي أستاذة تركية مساعدة في جامعة ولاية كارولينا الشمالية تدرّس التفاعل بين التكنولوجيا والمجتمع، في صحيفة فاينانشيل تايمز، تقول “لم أكن أعتقد أنني سوف أكتب هذا، لكن أردوغان جعل من تويتر وفيس تايم وسائل أحبط من خلالها محاولة الانقلاب في تركيا، حيث تمكن من حشد مؤيدي الحكومة باستخدام شبكات التواصل الاجتماعي”. لكن هذه التطبيقات ما كانت النتيجة لتكون مؤثّرة لو لم يظهر على شاشة هاتف محمول ذكي لمذيعة قناة “سي إن إن” التركية التي رفعت هاتفها أمام الكاميرا حتى يتسنى للمشاهدين أن يروا الرئيس التركي وهو يردّ على بيان إعلان مجموعة من العسكريين، عبر قناة “تي.أر.تي” الرسمية، الانقلاب على نظام أردوغان.
وقال فرحات بورتاف، مدير تحرير سي إن إن ترك، إن السماح لأردوغان بتوجيه نداء للناس للخروج إلى الشارع والتظاهر كان “مخاطرة”، لكن هذا كان عاملا حاسما في إنهاء الانقلاب العسكري، مضيفا أنه كان من الضروري ترك الخلافات جانبا في تلك اللحظة.
صداقة مؤقتة
تنتمي “سي إن إن ترك” لمجموعة دوغان ميديا غروب المعروفة بعلاقاتها المتوترة مع أردوغان، وقد دخلت في الكثير من النزاعات معه، شأنها في ذلك شأن قسم كبير من الصحافيين ووسائل الإعلام المعارضة والمستقلة في تركيا، والذين لم تدم كثيرا لحظات التفاهم المشترك بينهم وبين أردوغان.
وأكّد على ذلك إردم غول، مدير مكتب جريدة “كام حرية” في أنقرة، في تصريح لصحيفة واشنطن بوست، مشيرا إلى أنه من غير المرجح أن يشكر أردوغان منتقديه السابقين على مساندتهم له أثناء الانقلاب، وقمعه يعني المزيد من القيود على حرية الصحافة.
وهو بالفعل ما حصل حيث أصدر القضاء التركي في ظرف وجيز مذكرات توقيف بحق 42 صحافيا، في فصل جديد من فصول استهداف أنصار الداعية فتح الله غولن الذي يقيم في منفاه الأميركي وتتهمه أنقرة بتدبير محاولة الانقلاب.
ومن بين هؤلاء الصحافيين نازلي إيليجاك، التي سبق وتصادمت مع نظام أردوغان سنة 2013، حين انتقدت وزراء متورطين في فضيحة فساد، وكان الثمن طردها من صحيفة “صباح” المؤيدة للحكومة.
ووجه الرئيس التركي تحذيرا إلى وسائل الإعلام، صباح اليوم الموالي للانقلاب، قال فيه “إن وسائل الإعلام التي دعمت الانقلاب سواء أكانت مرئية أم غير مرئية، ستدفع الثمن”. ويشير الباحث أرسلان علي في دراسة حول “السلطة ومشاكل الإعلام في تركيا، والهوية السياسية-الدينية للنخبة الإعلامية”، إلى أن وسائل الإعلام باتت من الأسلحة الأكثر فاعلية بالنسبة إلى السياسيين وتساعدهم من خلال التلاعب بالمشاكل الاجتماعية-الاقتصادية للمجتمع وحفر قناة للفائدة وطاقة للجمهور حول مواضيع مختلفة.
استخدام الأئمة ووسائل التواصل الاجتماعي مكن أردوغان من الوصول إلى جمهور واسع في وقت قصير
أسلمة الإعلام
يقول الخبير الإعلامي طارق أونال “أنا أعمل في المجال الإعلامي منذ ثمانينات القرن الماضي، وأنا شاهد على أن جميع الحكومات كانت تدعم أو تنشئ بعض وسائل إعلام التي تستطيع من خلالها أن تنقل وجهه نظرها للشارع، أي أن تصبح لسان حالها والناطقة باسمها، ولكن تلك الحكومات لم تكن تشن حملات ترهيب وإقصاء لوسائل الإعلام الأخرى كما تفعل حكومة العدالة والتنمية”.
وتمول وسائل الإعلام التابعة للنظام التركي بالأساس من إعلانات مؤسسات الدولة وأيضا تتسابق الشركات الخاصة في تركيا لإعطاء الإعلانات لتلك الوسائل لأنها تريد أن تنال رضا الحكومة وتجنب بلائها، وفق طارق أونال.
تعتبر وسائل الإعلام واحدة من أهم المؤسسات في المجتمع. وفي الحقيقة تلعب وسائل الإعلام دورا كبيرا في إنتاج وتوزيع المعرفة اجتماعيا. وبالإضافة إلى ذلك، توفر وسائل الإعلام أعظم فرص للتواصل مع الناس، وقد تأكّد هذا الأمر أكثر بالنسبة إلى أردوغان، إثر عملية الانقلاب، التي جعلته يشدّد أكثر في مشروعه الهادف إلى فرض سلطته على الإعلام، وهو الذي كانت له تجربة ناجحة في هذا السابق، حين ساعدت الدراما التركية على رفع أسهمه بالخارج، وبالتحديد عند الشعوب العربية، قبل أن تهوي شعبيته قبل أن يأتي الربيع العربي وينسف هذا النجاح.
واعتبر مراقبون أن الانقلاب جاء ليخدم هذا التوجه نحو أسلمة الإعلام، واستدلوا على ذلك بخبر مفاده قيام الهيئة الناظمة لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة في تركيا في التاسع عشر من يونيو الماضي بسحب رخص عمل للعديد من قنوات التلفزيون والإذاعات التي يشتبه في دعمها لشبكة الداعية فتح الله غولن؛ بل ووضعت موظفين حكوميين على رأس صحيفة زمان ووكالة جيهان للأنباء، لتصبح بذلك النسبة الأكبر من وسائل الإعلام في تركيا تحت يد الحكومة، فيما يتم الدفع بأنصار النظام لاختراق وسائل الإعلام المعارضة والمستقلة لإتمام عملية السيطرة عليه.
وقال إردم غول “الحكومة تسيطر على جزء كبير من الإعلام، وبالنسبة إلى اللباقين ممن لم تستطع السيطرة عليهم، فهم مهددون بالسجن أو الاستجواب”، مضيفا “لكل تلك الأسباب، أرى أن تركيا مقبلة على مرحلة أكثر فاشستية من ذي قبل”.