"الناقل".. تاجر بريطاني يتورط في لعبة جواسيس

لا شك أن أفلام التخفي والشخصيات التي تتوارى خلف مهام سياسية في مراحل الصراعات كانت وما تزال تحمل معها صورا بليغة من التاريخ ووقائع حقيقية ما تزال تجتذب المشاهدين وتدفع منتجي السينما إلى إنتاج المزيد من هذا النوع من الأفلام، وإن بأطروحات وزوايا نظر أكثر عمقا.
توسعت مهمة أفلام التخفي لتشمل حياة الجواسيس في ظل الأنظمة المتصارعة، والتي كان من علاماتها إلى وقت قريب الصراع بين الشرق والغرب، وتحديدا الصراع المعلن والمخفي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، في ظل ما عرف بمرحلة الحرب الباردة.
على هذه الخلفية تبنى قصة فيلم “الناقل” للمخرج البريطاني دومينيك كوك، صاحب المنجز الكبير سواء في مجال الإخراج المسرحي أو السينمائي، ليشكل هذا الفيلم إضافة مهمة لمنجزه، وذلك بناء على وقائع حقيقية جرت ما بين العامين 1960 و1962 عندما كانت القوتان المتنازعتان على شفا مواجهة نووية وكانت الخطابات سجالا ما بين الزعيمين جون كنيدي وخروتشوف.
في تلك الحقبة كان هنالك مسؤول حكومي كبير في الدولة السوفيتية هو أوليغ بينكوفيسكي (الممثل ميراب نينديز) قد طفح به الكيل من رعونة خروتشوف وتهديداته الطائشة، من وجهة النظر الغربية، بما يدفعه إلى توجيه رسالة إلى السفارة الأميركية في موسكو عن طريق سائحين أميركيين يعلن فيها استعداده للتعاون.
وعلى الجهة الأخرى كانت المخابرات الأميركية والبريطانية تجتمعان بكثافة وتنسّقان في ما بينهما لالتقاط هذا الصيد الثمين ولإيجاد الوسيلة التي يمكنها من خلالها الاتصال بذلك المسؤول الروسي.
تحول درامي

الفيلم دراما صراع وتخفٍّ تم نسجها بكثير من الواقعية والموضوعية والحوارات المكثفة والإحساس العميق بالمكان
كانت المهمة الحساسة وشديدة السريّة تحتاج إلى شخص بعيد عن الشبهات وربما يكون العثور على رجل أعمال نشيط لا علاقة له بالسياسة هو الحل الأمثل، وبالفعل يتم العثور على كريفل (الممثل بينديكت كمبرباتش) ويتم استدراجه من طرف ممثلة المخابرات الأميركية إيميلي (الممثلة راتشيل بروسنان) لغرض القيام بالمهمة.
ابتداء من هذا التحوّل مع بدء ذلك التاجر الذي هدفه إرضاء زبائنه ليصبح مجرّد ناقل لوثائق سريّة، سوف نكون مع تراكم في سردية الجواسيس وأبجديات الحرب الباردة وشخصيّاتها، سردية كان فيها الغطاء السياسي هو الذي يطغى فيما أولئك الجواسيس يمارسون لعبة التخفي ومن ذلك سلسلة اللقاءات التي سوف تجمع ما بين كريفل وأوليغ الروسي.
هنا يتم رسم خط دقيق للغاية في هذا البناء السردي فالعلاقة الإنسانية والتعاطف الذي يشعر به كريفل تجاه أوليغ يدفعانه إلى التصديق بأن مكافأة أجهزة المخابرات الأميركية والبريطانية سوف تمنحه وعائلته فرصة للعيش في الغرب، لكن ماذا لو تخلّوا معا عن ذلك العهد وتركوا مصير أوليغ في مهب الريح، وهو ما يحصل فعلا، ويسبب صدمة شديدة لدى كريفل تدفعه للسفر إلى موسكو وتصحبه إيميلي لغرض إنقاذ أوليغ وتسفيره هو وأسرته.
هذا التحوّل في البناء الدرامي والذي شغل القسم الثاني من المساحة الزمنية للفيلم كان هو الأقسى وهو الذي سوف يشهد مطاردات مكشوفة بين المخابرات الروسية والأشخاص الثلاثة في اللحظة الأخيرة الفاصلة لفرار أوليغ.
ها هم الثلاثة تحت رحمة الحكم السوفيتي والأجهزة السرّية، ما بين التعذيب والاعتراف بالتجسس والخيانة بتزويد الغرب بمعلومات بالغة الحساسية، ومن ثم السجن الانفرادي والتعذيب وبالنسبة إلى إيميلي، والإبعاد الفوري بسبب موقعها الدبلوماسي.
لعبة غدر معلنة
لعبة الجواسيس والتخفي وقد وصلت إلى نهاياتها بعد انكشاف نصب خروتشوف صواريخ على الأرض الكوبية لاستهداف الولايات المتحدة، وهو ما عرف في تلك الحقبة بأزمة الصواريخ، وقد كانت هي الخلفية للوقائع التي تتعلق بكريفل الذي لم يكن ينظر إلى السياسة أكثر من النظر إلى أسرته، زوجته التي حسبت أنه يسافر مرارا إلى روسيا لملاقاة فتاة ما، أسرة أوليغ الصغيرة التي تتحسب من الأجانب، ثم مشاهد الاعتقال أمام أنظار الأطفال، كل هذا تم نسجه بمزيد من الواقعية والموضوعية والحوارات المكثفة فضلا عن الإحساس العميق بالمكان.
ورغم أن تصوير المشاهد المتعلقة بالاتحاد السوفيتي السابق قد تمت في براغ، إلا أن ميزة هذا الفيلم أنه قد وفر قدرا كبيرا من إمكانية التفاعل مع المكان واقترابه أو شبه تطابقه مع أجواء الاتحاد السوفيتي السابق، والملاحظ خلال ذلك هو إظهار الشخصيات وهي ضئيلة أمام المكان، فالجدران والأسوار العالية كانت علامة بصرية فارقة نجح المخرج وفريقه في إيجاد معادلات موضوعية بصرية لما كان سائدا في تلك الفترة.
وأما على صعيد بناء الشخصيات فإن الميزة الأساسية هي عدم الإسراف والمبالغة في إظهار البطولات والمهارات الفردية لأي طرف بل بالعكس كان الانتصار للروسي أوليغ، الذي ضاق ذرعا بنظام خروتشوف مع أنه ينتهي به المطاف بالتصفية الجسدية وقبر غير معلوم لأحد بسبب اتهامه بالخيانة العظمى عن تسريبه الآلاف من الوثائق السرية.
ويتكامل ذلك مع الشخصيات من الجانب الغربي سواء كريفل أو زوجته اللذين أديا دورين متميزين أو بالنسبة إلى إيميلي التي قررت المخاطرة لإنقاذ أوليغ وبدت أكثر رحمة وإنسانية من زميلها رئيس المخابرات البريطاني، الذي تنصّل عن الجميع بعد انتفاء حاجته لهم وحصوله على تلك الوثائق الثمينة في لعبة غدر معلنة.