الميليشيات الشيعية تثقل كاهل العراق في زمن الأزمة المالية الحادة

الدولة العراقية التي تعاني تحت حكم الأحزاب الدينية والطائفية تراجعا رهيبا في مختلف المجالات وتأمل نخب من قياداتها السياسية والعسكرية في استعادة حدّ أدنى من هيبتها وسيطرتها على مجالها الجغرافي ومن استقلال قرارها السياسي والأمني، تجد نفسها مضطرة للتعايش مع جسم دخيل على مؤسّساتها يتمثل في الميليشيات الشيعية التي تعتبر أكبر عائق في طريق استعادة الهيبة والسيادة المنشودتين، بل إن المفارقة تزداد حدّة عندما تكون الدولة ذاتها مضطرة لمواصلة تحمّل الأعباء المالية لتلك الميليشيات في زمن لا تكاد تقدر فيه على الإيفاء بالتزاماتها الأساسية وعلى رأسها مرتّبات موظّفيها.
بغداد - تطال الأزمة المالية الحادّة التي يشهدها العراق، الميليشيات الشيعية الناشطة على أراضيه والتي كثرت أعدادها، وتضخّمت أحجامها مع القفزة الكبيرة في أعداد منتسبيها خلال السنوات الأخيرة التي شهد فيها البلد حربا ضارية ضد تنظيم داعش شاركت فيها تلك الميليشيات بفعالية وانتقلت خلالها إلى مرتبة جديدة من التَنَظّم والتسلّح الأمر الذي ضخّم فاتورة نفقاتها وضاعف من نهمها للمال.
وبإلحاق الحشد الشعبي الذي يضم عددا كبيرا من تلك الميليشيات، شكليا، بالقوات المسلّحة دخلت عملية الإنفاق على تلك الميليشيات ضمن مسؤولية الدولة العراقية التي أضيف إلى العدد المتضخّم لموظّفيها ما يقارب المئة وثلاثين ألف فرد يشكّلون عدد منتسبي الحشد.
ويعلم جميع المطّلعين على الشأن العراقي أنّ انتماء ميليشيات الحشد للقوات العراقية مسألة صورية إلى أبعد حدّ وأنّ تلك التشكيلات المسلّحة لا تتلقّى أوامرها من قادة تلك القوات بما في ذلك القائد العام الذي هو رئيس الوزراء، بل من مؤسسيها وزعمائها الحقيقيين الذين يرتبط أغلبهم بدوائر القرار في إيران ويسهر على حماية نفوذها في العراق وعلى تنفيذ أجندتها في البلد والإقليم ككلّ.
ماكنة للنهب
تتمثّل المفارقة في أنّ الدولة العراقية باتت مضطرّة للإنفاق على أجسام عسكرية دخيلة تنافسها سلطاتها وتمنع استعادتها لهيبتها المفقودة، وحتى لاستقرارها، عندما تنخرط تلك الميليشيات في عمليات قتل ونهب يرتبط بعضها بأسباب وخلفيات سياسية وطائفية وأيديولوجية، بينما يرتبط البعض الآخر بغايات مادية مباشرة.
وخلال الأسابيع الأخيرة شهدت محافظتا ديالى وصلاح الدين شمالي العاصمة بغداد سلسلة من المجازر ذهب ضحيتها عدد من المدنيين ونسبتها مصادر عراقية لميليشيات شيعية قالت إنّها تسعى للسيطرة على موارد اقتصادية حيوية بالمحافظتين على رأسها آبار نفط تستغلّها تلك الميليشيات منذ سنوات وتقوم بتهريب الخام المستخرج منها إلى كلّ من تركيا وإيران.
ومع تعاظم دور الميليشيات وارتفاع فاتورة نفقاتها أصبح الجانب الاقتصادي والمالي جزءا أساسيا في نشاطها، حيث ينخرط بعضها في أعمال تجارية ويدير مشاريع ربحية من خلال إنجاز أعمال وإدارة مرافق خدمية تابعة للدولة يحصل عليها من خلال المشاركة الصورية وعبر شركات وهمية في الصفقات العمومية حيث يتولّى الموظفون المرتبطون بتلك الميليشيات وبالأحزاب ذات الصلة بها.
أما البعض الآخر فيذهب مباشرة نحو السيطرة على مرافق تابعة للدولة مثل المعابر الحدودية وخصوصا تلك الموجودة على الحدود مع إيران وتمرّ عبرها كميّات هائلة من السلع رخيصة الثمن والمقلّدة وغير المستجيبة لأي من المواصفات والمقاييس الصحية، بالإضافة إلى الأسلحة والمخدرات بمختلف أنواعها بما في ذلك الحبوب المخدّرة التي تنتج على نطاق واسع داخل الأراضي الإيرانية، بينما يتم في الاتجاه العكسي تهريب النفط والكثير من السلع وقطع الغيار والمعدّات رغم أنّها مستوردة بأموال الدولة العراقية وموجّهة للاستخدام محلّيا.
ويمتلك العراق بخلاف المنافذ الواقعة في إقليم كردستان عشرة منافذ حدودية برية مع دول الجوار وهي زرباطية والشلامجة والمنذرية وسومار والشيب مع إيران، وسفوان مع الكويت، ومنفذ طريبيل مع الأردن، ومنفذ الوليد مع سوريا. ومع السعودية منفذا عرعر وجديدة عرعر.
وتشير تقديرات رسمية إلى أنّ عدم سيطرة الدولة العراقية على منافذها مع دول الجوار يكلّفها خسارة 8 مليارات دولار سنويا، بينما تشير المصادر إلى أنّ ما لا يقل عن خمسة منافذ حدودية بجنوب ووسط العراق سبق أن خضعت بشكل كلّي لسيطرة الميليشيات المسلّحة، قبل أن يصدر رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الصيف الماضي أوامره للقوات النظامية بالسيطرة على منافذ البلاد، وذلك في إطار محاولته فرض هيبة الدولة من ناحية، وتعبئة مختلف مواردها لمواجهة الأزمة المالية الخانقة من جهة مقابلة.
فساد مسلّح
لا يواجه العراق، في سعيه لاستعادة استقراره المفقود منذ سنوات فقط إرهاب تنظيمي القاعدة وداعش، بل يواجه “إرهابا” من نوع آخر يتمثّل في الفساد الذي ينخر مختلف مؤسسات الدولة ويلتهم مواردها.
وليست الأحزاب الحاكمة وحدها هي المسؤولة عن ذلك الفساد، بل إنّ الميليشيات المسلّحة المرتبطة بتلك الأحزاب ذاتها جزء أساسي من الفساد ومساهم رئيسي في نشره وترسيخه بقوّة السلاح، إن لزم الأمر.
في تقرير سابق لصحيفة نيويورك تايمز وردت تفاصيل صادمة عن المدى الذي وصل إليه الفساد في العراق، حتى أصبحت الفصائل والميليشيات متحكّمة في قطاعات حيوية وتدير وزارات وتحوّل مواردها لمصلحتها، وذلك في غياب تام لقوانين الدولة حتى أنّ أحد الفصائل اعتبر أنّه هو القانون نفسه، وذلك لتبرير استيلائه على مشروع تابع لأحد المستثمرين، وفق التقرير الذي أعدّه الصحافي الأميركي روبرت وورث استنادا إلى تجربة عملية في العراق.
ويورد صاحب التقرير قصّة مستثمر عربي استولت كتائب حزب الله، الميليشيا القوية ذات العلاقة الوثيقة مع الحرس الثوري الإيراني، على مشروعه الاستثماري الذي أقامه في مطار بغداد الدولي بالاستناد إلى عقد حكومي وأجبرته على مغادرة العراق تحت طائلة التهديد، حيث قال له أحد عناصر الميليشيا عندما حاول التمسّك بالقانون الذي ينظم الاستثمار “نحن القانون”.
ويضيف أنّ الميليشيات أصبحت تشكّل طبقة جديدة، أخلاقياتها الوحيدة هي إثراء الذات. وعلى مر السنين أتقنت هذه العصابات الحيل على جميع المستويات من الاحتيال المصرفي إلى الاختلاس من الرواتب الحكومية.
ويشبّه التقرير الحياة السياسية في العراق بحرب عصابات قائلا إنّ “سطحها المضطرب يخفي عملا هادئا للنهب، ففي كل وزارة يتم تخصيص أكبر الغنائم بالاتفاق غير المكتوب لفصيل أو لآخر. فلدى الصدريين وزارة الصحة، ولدى منظمة بدر منذ فترة طويلة وزارة الداخلية، ووزارة النفط تابعة لتيار الحكمة”.
ومن بين أقوى الفصائل الشيعية في العراق كتائب حزب الله المحاطة بالغموض على الرغم من مكانتها البارزة. إذ يقول مايكل نايتس المحلل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى الذي تابع الفصيل منذ تأسيسه “لا نعرف شيئا تقريبا عن القيادة”. وقد بنت الكتائب إمبراطورية اقتصادية من خلال شق طريقها إلى الشركات الشرعية والعقود الحكومية.
جف الضرع
يواجه العراق حاليا أزمة حادّة في تأمين رواتب قرابة سبعة ملايين موظف مدني وعسكري ومتقاعد، بسبب عجز الموازنة الناجم عن تدني أسعار النفط في الأسواق العالمية.
ووفقا لتقديرات وزارة التخطيط، فإن عوائد تصدير النفط تشكل قرابة سبعة وتسعين في المئة من الموازنة السنوية للبلاد. ولا توجد أرقام رسمية معلنة في العراق عن عدد الموظفين، لكن التقديرات تشير إلى أن رواتبهم تساوي نحو خمسة مليارات دولار شهريا.
وتضع المطالب المالية المتزايدة لقادة الميليشيات الشيعية الناشطة في العراق ضمن ما يعرف بالحشد الشعبي، عقبة جديدة في طريق حكومة بغداد التي “تقاتل” على أكثر من جبهة لإنقاذ الدولة من حالة الإفلاس والانهيار التي تواجهها بجدية في ظل الظروف الأمنية والسياسية والاقتصادية بالغة الحساسية والتعقيد.
مع تعاظم دور الميليشيات وتضخم أعداد منتسبيها وارتفاع فاتورة نفقاتها أصبح تدبير الأموال جزءا أساسيا من نشاطها
ولا تطرح قضية تمويل الحشد الشعبي الذي يوصف بشديد النهم للأموال بسبب كثرة أعداد منتسبيه وتعدد متطلباته من رواتب للمقاتلين، ومساعدات لعوائلهم، وتعويضات لمن قتل أبناءهم في الحرب، فضلا عن حاجاته الكثيرة للأسلحة والذخائر ومختلف المعدات، إشكالية ذات طبيعة مالية فحسب، في ظل الأزمة المالية الحادة الناجمة عن تراجع أسعار النفط وتداعيات جائحة كورونا، بل تطرح على رئيس الحكومة تحديا ذا طبيعة سياسية.
فالكاظمي الذي يواجه خصوما سياسيين أشداء أغلبهم على صلة ما بالميليشيات، ويعملون على عرقلة إصلاحاته خوفا على مراكزهم ومصالحهم، مهدّد بتهمة الوقوف في وجه الحشد الذي لا يتردّد البعض في وصفه بـ”المقدّس”، وفي تسويق صورة له باعتباره المنقذ والمخلّص من تنظيم داعش.
وأمام تراجع الإيرادات جراء انخفاض أسعار النفط، يخطط العراق لإجراء تخفيضات واسعة النطاق في الميزانية التي يذهب القسم الأكبر منها للرواتب.
وعلى الرغم من صعوبة الظرف وشح الموارد لا ترغب الفصائل الشيعية المسلحة المدعومة من إيران والمنضوية تحت قوات الحشد الشعبي أن يشملها التقشّف الحكومي، إذ تعتبر أن دورها محوري في حفظ الأمن، وأنّ من واجب المجتمع التضحية للحفاظ على قوّتها وامتيازات مقاتليها.
وخلال السنوات الماضية بذل قادة الحشد الشعبي والسياسيون المساندون لهم جهودا كبيرة لاستصدار قرار بتخصيص ميزانية مستقلّة للحشد كما هي الحال بالنسبة لوزارتي الدفاع والداخلية.
ويواجه رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي وضعا مماثلا لوضع رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي عندما اتهمه قادة الميليشيات بخيانة “الحشد المقدّس” لعدم الاستجابة لمطالبهم بصرف أكثر من نصف مليار دولار لتوفير أسلحة وذخيرة وغيرها من المستلزمات.
ويتساءل متابعون للشأن العراقي عن مصير عشرات الآلاف من مقاتلي الحشد الشعبي المدرّبين جيدا على حمل السلاح وخوض الحروب في ظلّ حالة شبه الإفلاس التي يشهدها العراق وعجزه عن مواصلة الإنفاق على هؤلاء المقاتلين. ويخشى كثيرون أن يرتدّ هؤلاء المسلّحون أكثر فأكثر ضد المجتمع لتدبير الأموال اللازمة لعيشهم وعيش أسرهم.
وكانت إيران قد موّلت لفترات محدودة فصائل عراقية موالية لها، واقتصرت في أحيان كثيرة على صرف هبات لقادة تلك الفصائل لضمان ولائها، لكنّها أوقفت جميع تلك التمويلات والهبات تحت ضغط أزمتها المالية غير المسبوقة الناتجة أساسا عن العقوبات الأميركية الشديدة المفروضة عليها والتي ازدادت حدّة بسبب تراجع أسعار النفط وانتشار وباء كورونا، الأمر الذي يضاعف من أزمة الميليشيات ويزيد من شراستها في محاولة تحصيل الأموال باستخدام السلاح، وباستغلال سيطرتها على العديد من المناطق العراقية لاسيما مناطق السنّة في شمال البلاد وغربها.