الموصل تزهو بأبنائها خلال كفاحها لأجل التعافي من ذكرى داعش

العلم والمعرفة سلاح الموصليين لدحر التطرف بعد عقد من إنهاء سيطرة التنظيم.
الجمعة 2024/06/07
الموصل تزهر

بعد معارك عنيفة استعاد الجيش العراقي، بدعم من تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة، الموصل في عام 2017، معلنًا هزيمة تنظيم داعش في العراق، لكن القتل والتدمير اللذين مارسهما التنظيم مازالا ذكرى سيئة محفورة في قلوب الموصليين الذين يكافحون لأجل حياة أفضل.

الموصل (العراق) - قبل عشرة أعوام شكّلت الموصل عاصمة “الخلافة” التي أعلنها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بعد اجتياحه مناطق واسعة في سوريا والعراق نشر فيها القتل والدمار. اليوم مازال سكان المدينة يكافحون للتعافي وبناء مستقبل أفضل. ومن بين هؤلاء طالب جامعي قطع الجهاديون يده أصبح اليوم ناشطًا حقوقيًا، وصاحب محل موسيقى تمكّن من إنقاذ أرشيف عمره 50 عامًا، وقاض حاكم جهاديين سابقين بعد أن أعدم التنظيم المتطرف شقيقه.

في العاشر من يونيو 2014 سيطر التنظيم على الموصل في محافظة نينوى في شمال العراق. وأعلن منها بعد 19 يومًا “الخلافة الإسلامية”. وأطلّ الزعيم الأسبق للتنظيم أبوبكر البغدادي علنًا للمرّة الأولى من جامع النوري الكبير في الموصل، مقدّمًا نفسه على أنه "أمير المؤمنين"، في لحظة لا تزال محفورة في ذاكرة كثيرين.

وخلال سنوات بثّوا فيها الرعب، حوّل الجهاديون حياة الناس إلى جحيم، فنفّذوا إعدامات بقطع الرأس وفرضوا عقوبات بقطع أصابع المدخنين أو أيدي السارقين وجعلوا من نساء “سبايا” ودمّروا كنائس وجوامع ومتاحف وأحرقوا الكتب والمخطوطات.

وبعد معارك عنيفة استعاد الجيش العراقي، بدعم من تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة، الموصل في عام 2017، معلنًا هزيمة التنظيم في العراق. وفي أحد أيام مايو 2015 تجمّع العشرات من الأشخاص في حي الكرامة في شرق الموصل، وعيونهم مسمّرة على آزاد حسن وشقيقه ورجلين آخرين.

ونظر حسن إلى الناس من حوله، وفق ما يروي، بهلع، بينما دقّات قلبه تدق بقوة. ويقول لوكالة فرانس برس “كأنما كانوا مستأنسين بالمشهد، كأنها مباراة كرة قدم بين ريال مدريد وبرشلونة”. لكن الحقيقة كانت مختلفة تماما، ومأساوية. ويتابع حسن (29 عامًا) “قطعوا أيدينا”، موضحا أن عقابه جاء نتيجة خلاف مع صاحب فرن كان ينتمي إلى التنظيم.

لم تتوقف معاناة العائلة هنا، إذ إن التنظيم اعتقل أحد أشقاء حسن وثلاثة من أقاربه، ومازال هؤلاء مفقودين حتى الآن، بحسب قوله. ويضيف طالب الماجستير باللغة العربية في جامعة الحمدانية “أرادوا كسري، لكنهم خسئوا وخابوا”. ويتابع الأب لطفل يبلغ سبعة أعوام “أرتاد اليوم الجامعة وأمارس كرة القدم وأقود سيارة إلى حدّ كبير”، معتبرًا أن سلاحَي محاربة التطرف الإسلامي هما “العلم والمعرفة”.

◙ حسن الذي لا يزال يشعر بـ"أثر الجرح" بات اليوم ناشطا في مجال الدفاع عن حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة والمفقودين
◙ حسن الذي لا يزال يشعر بـ"أثر الجرح" بات اليوم ناشطا في مجال الدفاع عن حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة والمفقودين  

ورغم أنه لا يزال يشعر بـ”أثر الجرح”، يقول حسن الذي بات اليوم ناشطًا في مجال الدفاع عن حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة والمفقودين، “هناك إرادة لمكافحة هذه الأشياء السلبية الموجودة بداخلي”.

وفي شارع الدوّاسة التجاري يروي صاحب متجر “تسجيلات الربيع” للأسطوانات الموسيقية عمار طه خضر (50 عامًا) كيف أنقذ أرشيفه الموسيقي، من أسطوانات وأشرطة مسجّلة وأجهزة يعود عمرها إلى ثلاثينات القرن الماضي وأربعيناته، من أيدي الجهاديين فور دخولهم المدينة؛ فبعد إخراج الأرشيف من المتجر إلى المنزل اتفق مع سائق شاحنة مواد غذائية على نقله إلى بغداد.

ويقول “خبّأنا الصناديق خلف المواد الغذائية”، مضيفًا أنه لم يشعر بالارتياح إلّا حين “تمكّن من إبعاد الأرشيف عن الخطر”. وزار الجهاديون متجر خضر مرة واحدة فقط، وكان قد حوّله إلى محل لبيع الألبسة المستعملة “للتمويه”، وفق قوله. وظنّ خضر أن “المسألة لن تطول سوى شهرين أو ثلاثة”، فقرّر البقاء مع والديه في المدينة. لكن هزيمة الجهاديين لم تأت إلا بعد ثلاث سنوات.

سارع خضر بعد ذلك إلى ترميم متجره الذي أسّسته العائلة في عام 1968، معيدًا إليه هويته الأساسية. ويقول “أعتبر هذا المحل صيدلية نعطي فيها لكلّ زائر علاجا”. ويجد زبائن المتجر اليوم أشرطة تسجيل أقدمها يعود إلى عام 1917، ليس فقط لفنانين عراقيين وعرب إنما كذلك لموسيقيين عالميين مثل باخ وبيتهوفن.

وتزيّن الجدران صور مطربين وملحنين مشهورين عراقيين وعرب من أم كلثوم إلى عبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب. ويتابع قائلا “عانت المدينة” كثيرًا، لكنها “ستزهو بأبنائها وهي معروفة بعمقها التاريخي، مدينة المؤرخين والمثقفين والعلماء”.

وغادر القاضي أحمد الحريثي (60 عامًا) مدينته الموصل قبل يومين من دخول تنظيم داعش، وانتقل إلى العاصمة بغداد. لكن ما إن مضت فترة قصيرة حتى اعتقل الجهاديون والده وشقيقيه، ثم ما لبثوا أن أعدموا الأصغر سنًا في “ساحة عامّة بالسيف” حين كان يبلغ 17 عامًا فقط. ويقول القاضي لوكالة فرانس برس داخل مكتبه في الموصل “بثّوا صورًا له (شقيقه) على مواقعهم. كانوا يفتخرون بمثل هذه الأعمال”.

بعد هزيمة التنظيم حاكم الحريثي “المئات من الإرهابيين”. وفي عام 2019 أصدر حكمًا يقضي بإعدام 11 فرنسيّا “تمّ ترحيلهم من سوريا إلى العراق (…) بعدما اعترف أغلبهم بانتمائهم إلى تنظيم داعش الإرهابي وبقيامهم بأعمال إرهابية”، على حدّ قوله. ويضيف “الأدلة كانت كافية ومباشرة وواضحة”. وقد وجّهت إليهم اتهامات بتنفيذ هجمات في البلدين والتخطيط لهجمات أخرى في باريس وبروكسل، ومازالوا مسجونين في العراق.

وأصدرت المحاكم العراقية المئات من أحكام السجن بالمؤبد والإعدام في السنوات الأخيرة بحقّ أشخاص أدينوا بالإرهاب في محاكمات اعتبرت منظمات حقوقية أنها حصلت على عجل. ويتابع الحريثي “لم أشعر بأنني تأثرت سلبا تجاه المتهمين”، مضيفًا “كنت أتعامل مع الموضوع بحيادية كبيرة”. وقد عاد الحريثي إلى الموصل في عام 2020، وبات نائبًا لرئيس محكمة استئناف نينوى. ويقول “كان الوضع مأساويًا (…)؛ لم أعرفها (مدينة الموصل) وكأنني أدخلها لأوّل مرة”.

12