الموشحات وموسيقى الفلامنغو تلتقيان في أوبرا دمشق

ليس غريبا أن يقدّم موسيقي شاب أعمالا يمزج فيها بين روح الشرق والغرب، فمحاولات تقديم هكذا شكل موسيقي بدأت منذ ما يزيد عن المئة عام في الموسيقى العربية، وكان الموسيقار محمد عبدالوهاب من أوائل من عملوا على تقديم آلة القيثارة الكلاسيكية “هاواي” في الموسيقى العربية منذ عشرينات القرن الماضي. ومع تعدّد التجارب برز في العزف عليها عدد من المواهب الشابة، منها العازف السوري سليمان الشلبي الذي قدّم في أوبرا دمشق عرضا موسيقيا معاصرا حمل عنوان “عربي مودرن”.
دمشق – “عربي مودرن” خطوة إضافية، يخطو بها العازف السوري سليمان الشلبي في مشروعه الموسيقي على آلة القيثارة الكلاسيكية الذي بدأه منذ سنوات. وهو المشروع الذي كرّس له جزءا كبيرا من إبداعه.
والحفل الذي أقيم مؤخرا في دار الأسد للثقافة والفنون “أوبرا دمشق” تلاقت فيه أنغام الشرق والغرب في صياغات موسيقية جديدة، فجمع فيها الشلبي موسيقات عربية شهيرة في قوالب موسيقية غربية، كما مزج الروح الشرقية والغربية معا في توليفة واحدة، مقدّما مجموعة من الأغنيات الشرقية المعروفة من موشحات وارتجالات أدّاها غناء سومر النجار.

سليمان الشلبي: الموشحات والفلامنغو تجاورا للمئات من السنين في الأندلس
“عربي مودرن” كان فرصة ليعرف الجمهور السوري كم الطاقة الحيوية التي يمتلكها الموسيقيون الشباب ومقدار التغيير والإضافة التي يمكن أن يضيفوها إلى الموسيقى التقليدية العربية بمشاركة الموسيقى الغربية، ومن خلال منطق موسيقي علمي يقوم على فهم خصائص كل منهما ومدى تقبله للآخر، وإمكانية أن يقدّم معه في شكل موسيقى موحّد يضيف لهما بعدا جماليا أعمق.
فقدّمت في العرض موسيقى غاية في الشرقية منها الموشحات أو الموسيقى الصوفية بالتكامل مع موسيقى غربية صميمة، وكانت النتيجة تفاعل كبير من الجمهور الذي استهوته الأجواء الحارة التي كانت.
وأعدّ الشلبي موسيقيا كل المقطوعات التي قدّمت في الحفل، وكان لآلة القيثارة حضور خاص فيه، حيث ظهرت على التوازي معها آلات الأوكروديون والكمان اللتين عزف عليهما لجين زغيب والناي في عزف لعمار علي، إضافة إلى القيثارة باص والتي عزف عليها يزن الجاجة، أما آلات الإيقاع فكانت للعازفين محمد عمران و محمود كنيفاتي.
وقدّم الشلبي في بداية الحفل مقطوعة موسيقية من تأليفه عنوانها “ملح”، وضعها في قالب الفلامنغو بحيويته المعهودة. ومن خلال عزفه المتدفق أدخل الجمهور في أجواء اللعبة الجريئة التي سيقدّمها لاحقا عبر العديد من المقطوعات. ولم تغب الموسيقى العربية الشعبية كثيرا بعد تلك البداية، فظهرت في الأغنية الشعبية الشهيرة التي تنتمي للساحل السوري “هالأسمر اللون” التي أعدّها الشلبي في قالب الفلامنغو الذي بدأ به الحفل في انسيابية موسيقية سارت بالجمهور بين الموسيقى الشرقية والغربية، وكانت المقطوعة بالتشارك بينه وبين الناي والإيقاع.
وجرأة الشلبي كانت أكبر عندما قدّم في الفقرة التالية موشحات أندلسية بحتة على موسيقى غربية، مستثمرا الروح المشتركة التي تمتلكها كلا منهما وإمكانية المزج بينهما. فقدّم موشحان قام بتأليفهما الموسيقار فؤاد عبدالمجيد المستكاوي، وهما “عجبا لغزال” و”يا من نشا” غناهما سومر النجار.
وفي الموشحين ظهر التناغم واضحا بين المغني والعازفين، وهم الذين يقدّمون عملا شائكا وصعبا، فيه قدر كبير من التحدّي الفني. لكن حضور النجار الهادئ وتمكّن الفرقة من العزف ذلّلا العوائق في تجاوز مصاعب التجربة. وظهر الموشحان بألق جديد راق للجمهور الشاب الذي كان جزء منه لا يعرفهما سابقا.
ويعرف كل أهل الشام معزوفة “رقصة ستي” التراثية التي عالجها العازف الدمشقي الشهير عمر النقشبندي وقدّمها على آلة العود، وصارت تحفة موسيقية تعزف في الأعراس والأفراح خاصة في مدينة دمشق.
حيوية العزف

تحمل المعزوفة روح أهل الشام وكيفية صياغة أفراحهم، فكانت تعزف على آلة العود من قبل سيدة وترافقها النساء والفتيات بالرقص الشعبي، وهذه المعزوفة الشهيرة قُدّمت المئات من المرات في أشكال عديدة على آلة العود وضمن توزيعات موسيقية مختلفة. لكنها مع الشلبي تبلغ مداها الأوسع في المغامرة، حيث قدّمها بشكل شبه منفرد على آلة القيثارة، مستخدما أسلوب عزف يقترب كثيرا من أسلوب عزف آلة العود.
وأتت المعزوفة بطريقة مليئة بالحيوية والرشاقة واللعب على كل الأوتار دفعة واحدة بشكل يفيض بالقوة والسلاسة معا، فكان تفاعل الجمهور مع المقطوعة كبيرا، وهو الذي يعرفها جيدا ويعرف جرأة ما قام به الشلبي في تقديمه إياها على هذا الشكل، وكانت حدث الحفل “رقصة ستي” على القيثارة.
وفي حالة غرائبية جديدة من المزج الموسيقي والغنائي المعتمد على إبراز طاقات الصوت البشري والآلات الموسيقية، قدّم الشلبي جزءا من قصيدة الشاعر الصوفي السهروردي “أبدا تحنّ إليكم الأرواح” غناها سومر النجار في حالة اندماج موسيقي مع عزف الآلات من خلال مرافقة موسيقية من موسيقى أميركا اللاتينية في مزج بينها وبين مقطوعة “ملاغينيا” للموسيقي الكوبي أرنيستو ليكونا، وفيها بدا التناغم واضحا بين النجار وعازف الكمان لجين زغيب وسليمان الشلبي، حيث طاف الثلاثة في تنويعات موسيقية صوفية غاية في العمق.
وبعدها قدّمت المجموعة الأغنية الشهيرة “يا زهرة في خيالي” التي قدّمها الموسيقار فريد الأطرش في قالب التانغو، ثم أتبع ذلك بأغنية محمد عبدالوهاب الشهيرة “يا ورد من يشتريك” في قالب التانغو الغريب عنها أصلا.
"عربي مودرن" مشروع موسيقي يحمل الجمهور إلى جولة نغمية تطوف به في مساحات جغرافية كبيرة وحضارات مختلفة
لتنتهي هذه الرحلة الموسيقية الشرقية والغربية بمقطوعة التانغو العالمية “الشيكلو” التي ألّفها الأرجنتيني أنخيل فيلولدو عام 1902، وصارت شهيرة على مستوى العالم وعزفت الآلاف من المرات في المئات من دور الموسيقى. ومجدّدا يذهب الشلبي في خلق توليفة موسيقية غريبة كانت هذه المرة بين مقدمة أغنية “ألف ليلة وليلة” للملحّن المصري بليغ حمدي وبين الرقصة الهنغارية الشهيرة “تشاردا” التي تتميّز بوجود عدد من سرعات العزف فيها، فهنالك عزف بطيء ثم سريع ثم سريع جدا. وهذا ما خلق جوا من التشويق الموسيقي العالي عند الجمهور. ثم قدّمت الفرقة الموسيقية أغنية الموسيقار محمد عبدالوهاب “يا مسافر وحدك” وبها كانت نهاية جولة موسيقية طافت مساحات جغرافية كبيرة وحضارات مختلفة.
وسليمان الشلبي عازف موسيقي بارع على آلة القيثارة، وهو من الموسيقيين الشباب الذين يمتلكون مشروعا فنيا يكرّسون له جهدا كبيرا. بدأ بالتعلّم على العزف الموسيقي مبكرا وتخرّج من المعهد العالي للموسيقى بدمشق في العام 2016.
استهوته آلة القيثارة الكلاسيكية وأعطاها كل وقته وجهده، وأسّس من خلالها مشروعا فنيا يقوم على خلق حالة من المزج بينها وبين التراث الموسيقي الشرقي التقليدي، خاصة في ما يتعلق بموسيقى الفلامنغو.
ويرى الشلبي في موسيقى الفلامنغو “أنها من نسيج الموسيقى العربية القديمة، بحكم أنهما قد تجاورتا على امتداد مئات السنين في الأندلس. وتكوّنت بالمحصلة موسيقى جمعت العربية والأندلسية معا، ويمكن حاليا أن نكسب شكلا جميلا للموسيقى من خلال تقديم موسيقى عربية صميمة من خلال شكل الفلامنغو، وهذا ما نقوم به باستمرار”.
وعن آلته الأقرب إلى قلبه القيثارة، قال “هي آلة تمتلك روحا غنية يمكنها أن تفعل الكثير في الموسيقى العربية لو أُحسن توظيفها”. ويُتابع بشأن أهمية تقديم الموسيقى القديمة بشكل حديث “الموسيقى العربية القديمة راسخة في الوجدان، وهي غنية وفيها الكثير من المعاني العميقة، ولكي يتواصل معها الجيل الجديد من الشباب يجب أن تقدّم إليه بشكل يناسبه وبروح معاصرة تستهويه”.
