الموت والخوف يخيمان على ولاية الجزيرة في السودان

بورتسودان (السودان) - تعيش قرى وبلدات ولاية الجزيرة وسط السودان حالة من الهلع والخوف في ظل تطورات الحرب واستقبالها للآلاف من اللاجئين. وفي الخامس عشر من أبريل، عندما اندلعت الحرب بين قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، كانت ولاية الجزيرة الواقعة على الحدود الجنوبية للخرطوم واحة سلام بعيدة عن المعارك الدائرة في العاصمة السودانية.
وغادرت آنذاك المئات من العائلات الخرطوم إلى الجزيرة حيث تكدّس النازحون في منازل ومدارس ومراكز إيواء أقيمت على عجل في هذه المنطقة الزراعية الشاسعة الواقعة بين فرعي النيل الأزرق والأبيض. لكن في منتصف ديسمبر، اتسعت بقعة الحرب التي قادت السودان إلى شفير المجاعة وأوقعت الآلاف من القتلى وأرغمت ما يزيد عن ثمانية ملايين سوداني على النزوح من ديارهم، وامتد القتال إلى ود مدني، عاصمة الجزيرة.
ومع اشتعال المعارك في ود مدني، اضطر نصف مليون سوداني للنزوح مجددا، بعضهم لثالث مرة. وفي السابع من فبراير انقطعت خدمة الإنترنت والهاتف في الولاية. وروى أحد السكان في اتصال مع وكالة فرانس برس بواسطة هاتف نادر يعمل عبر الأقمار الصناعية، العنف المتواصل الذي يعيشه سكان الجزيرة. وأكد أن "العشرات من الأسر نزحت من طابت وعشر قرى مجاورة" موضحا أن النزوح “بالغ الصعوبة لعدم وجود وسائل التنقل بعدما نهبت العربات ولعدم توافر السيولة بسبب توقف التطبيقات البنكية التي تعمل بالإنترنت".
أما سكان الجزء الجنوبي من الولاية المتاخم لولاية سنار فيشكون من تزايد عمليات اقتحام المنازل. وقال أحد مواطني قرية ود نعمان "تزداد معاناتنا يوما بعد يوم فعندما يحاول المواطنون الدفاع عن منازلهم أمام عمليات النهب تأتي قوة أكبر وتطلق النار عشوائيا". وفي قرية أبوعدارة المجاورة لطابت، قتل خمسة مدنيين في 25 فبراير وفق ما أفادت لجان المقاومة، وهي مجموعات كانت تنظم التظاهرات والاحتجاجات ضد الحكم العسكري وباتت اليوم آخر شبكة أمان لـ48 مليون سوداني في غياب البنية الأساسية وأجهزة الدولة.
وفي ولاية الجزيرة كلها، أحصت لجان المقاومة 86 قتيلا إضافة إلى العديد من الجرحى خلال الأسبوع الماضي في 53 قرية تعرضت لهجمات قوات الدعم السريع. وتتم المعاملات المالية منذ اندلاع الحرب في السودان قبل عشرة أشهر من خلال التطبيقات الرقمية بعد أن أدى نهب الأموال السائلة إلى إفلاس العائلات. ويتيح تطبيق البنك الرئيسي في السودان إجراء تحويلات وتسديد مدفوعات ودفع ثمن مشتريات في المحلات، لكن هذه المعاملات تتطلب توافر شبكة الإنترنت.
كما ارتفعت الأسعار بشكل كبير وتباع صفيحة البنزين بـ100 ألف جنيه أي ما يعادل 80 دولارا، بعد أن أغلقت محطات الوقود. وتضاعف سعر كيلو اللحم من ستة آلاف جنيه سوداني في ديسمبر إلى 12 ألف جنيه حاليا. وأكد جبريل إبراهيم وزير المالية السوداني للصحافيين هذا الأسبوع أن "إيرادات الدولة تراجعت بنسبة 80 في المئة محذرا بأن اقتصاد البلاد يعيش أوضاعا قاتمة وحالة استثنائية".
ولكن أكبر مشكلة هي عدم توافر الأدوية. ويقول محمد القاسم من سكان قرية تبعد 25 كيلومترا غرب ود مدني "الأسوأ أنه لا توجد أدوية خاصة للمصابين بأمراض مزمنة مثل السكري وضغط الدم". ويأتي هذا ليدعم تقارير دولية تؤكد زيادة معاناة السودانيين. وقال المفوض السامي الأممي لحقوق الإنسان فولكر تورك الجمعة إن المدنيين السودانيين يعيشون في "رعب شديد" بسبب "النزاع القاسي والعبثي" الذي يهز البلاد ويشكل خطرا على السلام الإقليمي. وشدد تورك على أن الأزمة في السودان تتسم بالاستهتار بالحياة البشرية.
ويحتاج حوالي 25 مليون شخص، أي أكثر من نصف السودانيين، إلى المساعدات، ويواجه 18 مليونا منهم انعداما حادا في الأمن الغذائي، وفق معطيات الأمم المتحدة. وقال تورك أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة الدولية إن "الأزمة في السودان هي مأساة يبدو أنها صارت منسية على المستوى الدولي". ووصف الحرب بأنها "نزاع قاس وعبثي". وأضاف أن طرفي النزاع "صنعا مناخا من الرعب الشديد، مما أجبر الملايين على الفرار".
◙ لجان المقاومة أحصت 86 قتيلا إضافة إلى العديد من الجرحى خلال الأسبوع الماضي في 53 قرية تعرضت لهجمات قوات الدعم السريع
كما لفت إلى أن الجانبين أفلتا من العقاب على انتهاكات متعددة لحقوق الإنسان، بينما لم تحرز محادثات تحقيق السلام أي تقدم. وقال "أصبح السودان كابوسا حيا". ويسلط تقرير معروض على مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الضوء على الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان التي ارتكبها الطرفان المتحاربان. كما يعرض بالتفصيل الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي التي قد يرقى الكثير منها إلى مستوى جرائم حرب، أو غيرها من الجرائم الوحشية. وأوضح تورك أن ما لا يقل عن 14600 شخص قتلوا وأصيب 26 ألفا آخرون، مرجحا أن الحصيلة أعلى بكثير.
وقال تورك إنه إلى جانب نيران المدفعية الثقيلة، فإن استعمال "العنف الجنسي سلاحا في الحرب، بما في ذلك الاغتصاب، صار سمة فارقة - ومشينة - لهذه الأزمة". وأعرب المفوض الأممي عن قلقه العميق بشأن آلاف المدنيين المحتجزين تعسفيا. كما عبّر عن انزعاجه من التقارير التي تفيد بتعبئة المدنيين للقتال، خوفا من أن يزيد ذلك من فرص انزلاق السودان إلى دوامة حرب أهلية طويلة الأمد.
وأشار إلى أن 80 في المئة من المستشفيات باتت خارج الخدمة، في حين أن الحرمان المتعمد على ما يبدو من الوصول الآمن للوكالات الإنسانية يمكن أن يرقى إلى مستوى جريمة حرب. وقال تورك إن تدمير المستشفيات والمدارس ستكون له آثار دائمة على الحصول على الرعاية الصحية والتعليم. وأضاف "مع اضطرار أكثر من ثمانية ملايين شخص إلى الفرار داخل السودان وإلى البلدان المجاورة، فإن هذه الأزمة تقلب البلاد رأسا على عقب وتهدد بشدة السلام والأمن والأوضاع الإنسانية في جميع أنحاء المنطقة".
وحث تورك الدول على زيادة التبرعات لخطة الاستجابة الإنسانية للسودان التي لم يتم حتى الآن جمع سوى 4 في المئة من ميزانيتها. وأعرب المسؤول الأممي أيضا عن أسفه لغياب حوار فعال لإنهاء النزاع. وتابع تورك "يجب على الطرفين المتحاربين أن يتفقا على العودة إلى السلام دون تأخير". كما دعا "المجتمع الدولي لأن يعيد تركيز اهتمامه على هذه الأزمة المؤسفة قبل أن تنزلق إلى المزيد من الفوضى".