الموت بوصفه مرادفا للحب
في صغري عايشت حادثة غريبة من نوعها، كان ذلك عندما مرضت زوجة جارنا بمرض خطير أخبرها الأطباء على إثره أنها على حافة النهاية. ماذا فعلت هذه الزوجة؟
خطبت فتاة شابة لزوجها، وكنا نراها بين الحين والحين تتحامل على نفسها حاملة بعض الهدايا والأغراض للعروس الجديدة التي اختارتها “على أيديها” كما يقول المثل، حسب المواصفات والذوق الخاص بزوجها الذي خبرته على مدى سنوات طويلة، كانت تحمل لها الهدايا وتجلس عندها بالساعات تحدثها عن “كيلاني” ما يحبه وما يكرهه، وكيف يجب أن ترعاه وتكسب قلبه، وتتجنب غضبه.
اندهش الجميع من سلوك الزوجة الأولى وشجاعتها وموقفها النبيل تجاه الرجل الذي أحبته، حتى باتت حديث المنازل والمقاهي، حيث الكل يشيد بـ”تضحية” هذه المرأة وقدرتها على التسامح والمحبة، وتجاوز مرضها، لتعلو فوق نفسها وتقدم مصلحة زوجها ومستقبله على وضعها الصحي. لم تكن زوجة، كانت أمّا حقيقية، تريد أن تتأكد أن ابنها في مأمن قبل أن تغادر الحياة.
ثم ماتت الزوجة الأولى وتزوج “كيلاني” الشابة التي لم تستطع أن تنسى أنها من اختيار و “تربية” الزوجة الأولى، التي ظلت حاضرة بينهما، بسبب فضلها عليهما، وكانت تشعر أنها “هدية” الزوجة الأولى لزوجها، حملتها ما حملتها من نصائح وصفات لتحل فيها، فتحمل وجهها، وتواصل ما بدأته.. وكانت تعلم علم اليقين أن قلب زوجها عامر بمشاعر الفضل والامتنان والحب للزوجة الأولى فلم يكن يرى فيها إلا “صنيعا ومعروفا” من زوجته الأولى له.. وانتهى الزواج بالفشل.
فشل الزواج الثاني بعد أشهر قليلة، و كان فشله أكبر دليل على أن بعض التضحيات ليست إلا “فخا” لإيقاع من نضحي من أجلهم في شرك جميلنا، وأسرهم للأبد في سجن المعروف الذي قدمناه لهم.
رأيت بعد ذلك حالات قريبة أو مشابهة، لا تقل خطرا عن هذه الحالة، مجتمعاتنا التي تمجد “التضحية” ونكران الذات، والبطولات الملحمية، والأساطير الشعبية، وقصص الخيال، تحب مثل هذه المرأة، لما تتحلى به من إنكار للذات وتسامح ومغفرة، تكاد تخرجها من خانة “الإنساني” إلى “المقدس”.
في ثقافات أخرى كانوا، على الأغلب، سيعتبرون سلوك الزوجة الأولى، أنانية، بل و”خبث” أيضا، ورغبة منها في أن تستمر في قلب الرجل الذي كان زوجها حتى بعد مماتها، وإقصاء متعمد وممنهج للزوجة التي جاءت بعدها.
فلو كانت الزوجة الأولى ترغب في مصلحة زوجها حقيقة، لما كان عليها إلا أن تموت، تاركة أمامه فرصة أن ينسى ويتجاوز إلى غيرها، لأن لا سعادة من دون نسيان أو تجاوز، أما الكلام عن التسامح والمحبة والغفران فليس إلا شركا ووهما وبطولة كاذبة.
وليس أجمل ولا أأمن ولا أصدق من حدود واضحة بين مراحلنا وعواطفنا أيضا، فلا نجعل من الماضي حاضرا، ولا من الغيرة تسامحا، ومن الكراهية حبا، ومن الخذلان بطولة ومن الإنساني مقدسا. في حالات كثيرة ليس الحب سوى الذهاب أو الموت أو الاختفاء الكلي من حياة من نحبهم.