الموت الرحيم تبيحه الدوافع الإنسانية ويرفضه الدين والمجتمع

تثير مسألة الموت الرحيم جدلا واسعا، ففي الوقت الذي أجازته بعض الدول الأوروبية لأصحاب الأمراض المستعصية التي لا يرجى شفاؤها للتخفيف من عذاباتهم، ترفض دول كبريطانيا والمنطقة العربية الموت الرحيم لمخالفته الشرع وأخلاق المجتمع السائدة، في حين يطالب الكثير من المرضى في الغرب باحترام الأطباء قراراتهم الشخصية، إذ سمح تمدد قيم الفردانية بتحول خيار الموت الرحيم أو الانتحار إلى قرار فردي، فالمريض يؤكد أنه مسؤول عن جسده وله حرية التصرف فيه.
تونس – اختار العالم الأسترالي ديفيد غودال البالغ من العمر 104 أعوام أن ينهي حياته في سويسرا في مايو 2018 مستفيدا من القوانين التي تجيز الموت الرحيم في هذا البلد، بحسب ما أعلنت مؤسسة “إيكزيت إنترناشونال” التي قدّمت له يد العون في تنفيذ قراره.
وقال الطبيب فيليب نيتشه مؤسس “إيكزيت إنترناشونال” إن “البروفسور ديفيد غودال توفي عند الساعة 12.30 (من يوم الخميس الذي صادف 11 مايو من العام الجاري) بسلام بعد تلقيه “حقنة قاتلة”. لم يكن ديفيد غودال يعاني من أي مرض مستعص إلا أن صحّته بدأت تتدهور في الآونة الأخيرة، وقد حصل على موعد من منظمة تساعد على الانتحار في بازل في سويسرا، لأن بلاده لا تجيز ذلك على أراضيها.
وقد عبّر غودال عن شعوره بالأسف الشديد على اضطراره إلى الموت خارج بلده قائلا في أواخر تصريحاته “كنت أود أن أنهي حياتي في أستراليا، لكن للأسف أستراليا متأخرة في هذا المجال عن سويسرا”.
وقبل ساعات من تلقيه الحقنة القاتلة بمساعدة طبية وبحضور أفراد من عائلته وأصدقاء، أعرب عن انتظاره موعد الموت بفارغ الصبر، وقال للصحافيين “لم أعد أرغب في العيش، أنا سعيد لأن الفرصة أتيحت لي لإنهاء حياتي”. وردا على سؤال عن الموسيقى التي يرغب في سماعها في آخر سويعات حياته قال “لم أفكّر في الموضوع، ولكن إن كان عليّ أن أختار فأظن أنني سأختار الحركة الرابعة من السمفونية التاسعة لبيتهوفن”.
كان هذا العالم الخبير بالبيئة أدلى بتصريحات لمحطة “أي.بي.سي” التلفزيونية في عيد ميلاده مطلع أبريل قال فيها “آسف كل الأسف لأني وصلت إلى هذا العمر. فأنا لست سعيدا. أريد أن أموت. وهذا ليس أمرا محزنا. ما يحزنني هو منعي من ذلك. أعتبر أن كل شخص مسن مثلي ينبغي أن يتمتع بكامل حقوقه بما في ذلك الحق في مساعدته على الانتحار”.
وكثيرون كديفيد غودال ممن يعانون أمراضا قاتلة أو تعرضوا إلى إصابات نتج عنها بتر أعضائهم مثلا، أو فقدوا إحدى حواسهم يشعرون بآلام لا تحتمل تجعلهم يغرقون في حالة من الإحباط إلى درجة فقدانهم الأمل، لذلك يرفضون الاستمرار في الحياة، ويرون في الموت حلا للخلاص من أوجاع المرض.
ورغم أن الموت الرحيم -أو الانتحار بمساعدة طبية- لا يقبل به الدين وتعارضه معظم دول العالم لأسباب أخلاقية أساسا، إلا أن بعض الدول الأوروبية أجازته قانونيا كسويسرا والهند وبلجيكا لدوافع إنسانية، إذ تعتقد أنه من حق كل شخص الموت بكرامة وله الحرية في التصرف في جسده إن أصبح عبئا عليه، وإذا كان المرض يتعذر علاجه أو في مراحله النهائية.
وقد أثار الموت الرحيم الكثير من الجدل، فإذا كانت المنطقة العربية ترفضه قطعا لتعارضه مع المؤسسة الدينية والنمط الاجتماعي السائد، فإن الدول الأوروبية منقسمة بشأنه وهو محل نقاش، وقد طالب بعض النواب في بلجيكا بتوسيع شروط الموت الرحيم لتشمل من هم في سن الشيخوخة، كما طالبت الكتلة البرلمانية للحزب الديمقراطي الحر في أكتوبر الماضي وزير الصحة الألماني ينز شبان بالسماح بالموت الرحيم لأصحاب الأمراض المستعصية التي لا يرجى شفاؤها. في حين لا تقبل به المملكة المتحدة وقد رفضت أعلى محكمة في بريطانيا أواخر نوفمبر الماضي السماح لرجل مريض بالحصول على حق الموت، بعد معركة قضائية خسرها في النهاية الرجل الذي يعاني من مرض ميؤوس من شفائه.
تكشف هذه الانقسامات أن مسألة الموت الرحيم أمام تحد أخلاقي وديني واجتماعي، فإذا كانت حالات المرض المستعصية التي تسبب لصاحبها الألم وتجعله يستنجد بالموت رفضا لعجزه، إلا أن للدين والمجتمع رأيا آخر، باعتبار أن الموت والحياة بيد الذات الإلهية، وفي تطبيقه تحد لضوابط الدين وأخلاق المجتمع الذي يصنف كل أشكال الانتحار خطيئة لا تغتفر.
متى يجوز القتل الرحيم؟
الموت الرحيم أو “الموت الجيد ” يعرفه موقع ويكيبيديا بالمصطلح الذي يشير إلى ممارسة إنهاء الحياة على نحو يخفف من الألم والمعاناة، ووفقا لمجلس اللوردات البريطاني، اللجنة الخاصة بآداب مهنة الطب، فإن التعريف الدقيق للقتل الرحيم هو “إجراء تدخل متعمد مع الإعلان عن نية إنهاء حياة، للتخفيف من معاناة استعصت على الحل”.
لم يعد الانتحار بسبب حالة مرضية ميؤوس منها بل بات خيارا فرديا، لأن مفهوم الفردانية في الغرب يمنح الفرد حرية التعامل مع الجسد والتصرف فيه وفق رغبته وإرادته
يتم تصنيف القتل الرحيم بطرق مختلفة فهو يشمل القتل الرحيم “السلبي” أي إيقاف العلاج الطبي مع نية متعمدة لتسريع وفاة مريض ميؤوس من شفائه. أما القتل الرحيم النشط فهو الذي يفضي إلى الموت بسبب فعل، على سبيل المثال، عن طريق الحقن بمادة مميتة.
وعادة ما يلجأ إليه من بلغ درجة كبيرة من الإحباط وفي مرحلة من الألم التي تستوجب حدا، ولا شك أن الحالة النفسية السيئة جدا تحرض المريض على التفكير في ممارسة حقه في الموت. ورغم محاولات المحيطين به دعمه في معاناته إلا أن ما يشعر به من سوداوية يدفعه إلى اعتبار هذا الدعم مجرد شفقة، بل يثير فيه مشاعر العجز، خاصة لمن تغيرت حياتهم بعد حادث أليم، إذا لم يقبل هؤلاء بأن تتغير حياتهم إلى الحالة التي أصبحوا عليها بعد أن صاروا من ذوي الاحتياجات الخاصة كأن يصبحوا فجأة على كرسي متحرك.
هنا يطرح دور المجتمع والدين والمحيط الأسري في احتواء المرضى نفسيا في حالة الإصابة بالعجز الجسدي، لكن في حالات استعصاء الشفاء يرى هؤلاء أن طلب الموت يضع حدا لمعاناتهم.
ويشير الطيب الطويلي الدكتور في علم الاجتماع في تصريح لـ”العرب” إلى أن الموت الرحيم يطرح إشكالية ذات بـُعدين اثنين، يتمثل الأول في البعد الطبي الذي يشير في حالات كثيرة إلى أن الواقع الإكلينيكي للمريض يكون ميؤوسا منه، حيث يكون الفرد مربوطا بالآلات الطبية أو يعاني من آلام حادة قد تتجاوز أحيانا حدود احتمال البشر، ولذا يكون دوره في تجنيب المعاناة والآلام المبرحة وحفظ كرامة الإنسان في موته كما تم حفظها في حياته، فالغرض إنساني بامتياز إذا ما تناولنا الأمر من جانبه الإنساني أو الطبي باعتبار أن البعد الإنساني موجود في هذه الممارسة.
أما البعد الثاني فيتمثل في البعد الثقافي والاجتماعي والديني للموت، حيث لا يمثل موت الفرد أو قتله ظاهرة فردية أو شخصية تتعلق بفردانية المريض وإنما تتجاوزها إلى الوعي الجماعي أو كيفية تناول المجتمعات لمسألة الموت، والتي تعتبره مسألة إلهية لا يحق للفرد التدخل فيها، وبالتالي يكون الرفض قطعيا للموت الرحيم واعتباره شكلا من أشكال القتل مهما كانت الوضعية الطبية أو الجسدية للشخص.
ويعتقد خبراء أن عصر العولمة -وأمام ما يشهده من تطور رقمي وتكنولوجي غير مسبوق إضافة إلى انتشار الأفكار المحافظة التي تزامنت مع رواج الشعوبية واليمين المتطرف- ساهم في تمدد قيم الفردانية، ولم يعد الفرد مكترثا لقيود الدولة والدين بل بات الانتحار مقننا وصار الموت الرحيم قرارا شخصيا.
ويقول ممدوح عزالدين المختص في علم الاجتماع في تصريح لـ”العرب” إن “الموت الرحيم بمثابة الخلاص من العذاب وطلب للراحة وهي ظاهرة محدودة في المكان باعتبار أنها لا تحظى باهتمام عدة دول”. غير أنه يستدرك بقوله “في 2018 لم يعد الموت الرحيم في هذا المستوى فقط ففي بلجيكا مثلا أقروا قانونا يسمح بالانتحار، كما أنه بإمكان هذه الظاهرة أن تتوسع عن طريق عدوى الأفكار الثقافية التي تنقلها العولمة”.
وأوضح “لم يعد هنا الانتحار بسبب حالة مرضية ميؤوس منها بل بات خيارا فرديا. لأن مفهوم الفردانية في الغرب يمنح الفرد حرية التعامل مع الجسد والتصرف فيه وفق رغبته وإرادته”. وتابع “أصبح قرار الحياة أو الموت قرارا فرديا لأن المجتمعات الغربية أصبحت تقوم على الفردانية المطلقة؛ لم يعد للمجتمع بمؤسساته الحق في تقرير مصير الشخص بل أصبح الفرد سيد نفسه وجسده ويتصرف فيه حسب رغبته”.
انقلاب قيمي
يصف ممدوح هذا التحول بالانقلاب القيمي الذي يشهده هذا العصر أو كما تعرفه الدراسات بالفردانية المنفلتة التي قادت إلى عصر الفراغ والاغتراب الروحي للفرد إذ تقلصت سلطة المعايير التي يضبطها المجتمع، فيما ظهرت معايير الفردانية التي تسمح للفرد بالتصرف بحرية وتحديد سلوكه كما شاء. وقد تبدو هذه التجاوزات غريبة لكن عزالدين يعتقد أنها إفرازات طبيعية للعولمة ومرحلة ما بعد الحداثة.
ورغم أن الموت الرحيم ليس مباحا في العالم العربي فإن نقائص المنظومة الصحية ومعاناة المرضى تتطلبان مساءلة أخلاقية للقائمين على هذا القطاع باعتبار أنهما تبددان آمال المرضى في الشفاء، وإذا كان الغرب يدعو إلى الموت الرحيم لتخليص مرضاه من الألم بمنحهم راحة أبدية إرادية، فإن آلام المرضى بالمنطقة العربية لا تجد من يوقفها.
ويعتقد الطيب الطويلي أنه “من الضروري فتح النقاش حول هذا الموضوع في مجتمعاتنا العربية، فصحيح أنه لا وجود لدولة عربية تبيح ‘القتل الرحيم”‘ ولكن عدة مجتمعات عربية يوجد فيها ‘الموت غير الرحيم’ حيث يـموت المرضى بسبب سوء المنظومة الصحية، أو نقص الأطباء أو بسبب الإهمال أو نقص الدواء، وقد يعلم الأطباء أن المريض لا يــُرجى شفاؤه فيــُمضي ما تبقى من حياته على المهدئات والمسكنات منتظرا أن تحين ساعته”.
وتابع بقوله “لا بد من الإشارة هنا إلى ما قاله روجي بايكون في القرن الثالث عشر -وهو الأب الروحي للقتل الرحيم- من أن دور الأطباء أن يعملوا على إعادة الصحة إلى المرضى وتخفيف آلامهم، فإن استحال عليهم ذلك يجب عليهم أن يهيئوا لهم موتا هادئا وسهلا في النزع الأخير”.
ويصعب على المنطقة العربية ذات التقاليد المحافظة والتي تحتكم إلى رأي السلطة الدينية أن تبيح الموت الرحيم -أو الانتحار- بسبب مخالفته للشرع في الوقت الذي يعاني فيه المرضى من آلامهم من جهة ومن تردي الخدمات ونقائص القطاع الصحي من جهة ثانية على غرار تعرضهم لجرائم الاستغلال من قبل تجار الأعضاء في بعض الدول كمصر.
ولفت سامي المشد، أمين سر لجنة الصحة بالبرلمان المصري، إلى أن التأخر العلمي الذي تعاني منه بعض المؤسسات الصحية في الدول العربية يساهم في تدهور أحوال المرضى بصورة كبيرة، كما تنجر عنه عمليات تجارة للأعضاء وسط انتشار عصابات محترفة تستغل المرضى الفقراء.
وأضاف المشد في تصريحات لـ”العرب” أن عمليات تجارة الأعضاء، سواء تمت بعلم المريض أو بغير علمه، مقبولة عند بعض الفئات التي تكون بحاجة إلى المال، لكن إذا تعلق الأمر بإنهاء حياة إنسان، مهما كانت ظروفه، لا تلقى القبول ذاته، وفي أحيان كثيرة يتدخل أفراد الأسرة لاستمرار وضع أجهزة التنفس الصناعي، عكس رغبة الأطباء الذين يرون أن لا أمل في الحياة من جديد.
غير مسموح به في العالم العربي
ناقشت لجنة الصحة في البرلمان المصري، على مستوى ضيق العام الجاري، مسألة تقنين الموت الرحيم، أثناء حوارات جرت بشأن تعديل قانون تجارة الأعضاء البشرية، بناء على مطالبات حقوقية وطبية، لكن موقف الأزهر ودار الإفتاء بتحريم الأمر أجهض خروج القضية إلى المناقشات العلنية.
وتقدم عبدالحميد جابر، المحامي والناشط الحقوقي المصري، بطلب رسمي إلى البرلمان المصري، في مايو الماضي، لسن تشريع قانون القتل الرحيم داخل البرلمان، لوقف المعاناة والآلام المبرحة للمرضى مع الأمراض الميؤوس من علاجها، ولم يلق الطلب اهتماما من أعضاء البرلمان.
وتتعدد الآراء الفقهية بين مؤيد ومعارض ومؤيد بشروط، ما يجعل الموضوع شائكا في ظل حالة الجمود الفكري التي تسيطر على الكثير من الشيوخ.
ويعد قرار مجمع الفقه الإسلامي بالسعودية عام 2015 الأقرب إلى التطبيق في مختلف البلدان العربية، فقد أرجع القضية إلى تقدير الأطباء بشأن إيقاف العلاج عن المريض الميؤوس من شفائه. وتوافقت معظم الآراء الفقهية في المجمع على أنه لا حرج من رفع الأجهزة الطبية عنه، بعد ثبوت عدم جدوى علاجه، وأوضح المشاركون في الجلسة التي استعرضت أوراقاً علمية عدة، بمشاركة ستة علماء تنوعت مدارسهم وتوجهاتهم، أن بعض الأطباء والمستشفيات يستخدمون الأجهزة الطبية لبعض المرضى بحالات “موت الدماغ”، ولا فائدة ترجى منها، ويتم فرضها عليهم من قبل وزارات الصحة، وخوفاً من المساءلة القانونية، لافتين إلى أن ذلك منهي عنه شرعاً، ولا يجدي نفعاً للمريض، فضلاً عن اقتناع الأطباء التام بعدم جدواها.
وترفض الهيئات الإسلامية ترك تقرير مصير الحياة بيد الإنسان المريض، حال كان وضعه الصحي يسمح له بالاستمرار فترات أطول وأغلبها ركزت على الحالات الميؤوس منها واعتبرت إنهاء الحياة في تلك الحالة جائزا طالما لا قيمة فعلية للأجهزة الطبية وأُخبر بذلك الأطباء، فيجوز نزع الأجهزة، لأنها تعتبر وسيلة من وسائل العلاج التي أصبحت لا تقدم ولا تؤخر. كما ترفض الكنيسة الكاثوليكية في مصر الموافقة على مثل هذه التشريعات.
وأوضح المشد، أن البرلمان قد يقدم على إجازة القتل الرحيم حال موافقة مجمع البحوث الإسلامية على وضع شروط تسمح بتطبيقه، وسيلتزم البرلمان بالرأي الشرعي لضمان عدم مخالفة الدستور، الذي ينص على أن الدين الإسلامي مصدر التشريع في مصر.
واستنتج إبراهيم الدسوقي، مدير مستشفى الحسين الجامعي (حكومي مصري) في تصريح لـ”العرب” أن الرأي العلمي يخالف الرأي الشرعي، والمشكلة في مصر وغالبية الدول العربية، تكمن في عدم الاستعانة بالأبحاث العلمية ومحاولة توفيقها مع الآراء الشرعية، وبالتالي فإن الجمود يبقى سائدا فيما يتعلق بمثل هذه الأمور، وأن العديد من الأسر تطالب بنزع الأجهزة من المرضى لصعوبة الأوضاع الاقتصادية التي يعانون منها، مع إدراكهم صعوبة الحياة مرة أخرى.