المناخ والسياسة في ليبيا وراء ارتفاع حصيلة الضحايا

تميل الظواهر الجوية القصوى إلى حصاد أكبر عدد ممكن من الضحايا في الدول الفقيرة أو التي تشهد نزاعات بسبب نقص البنى التحتية وأنظمة الإنذار المبكر وخدمات الاستجابة لحالات الطوارئ، إلا أن عدم الاستقرار السياسي له دور رئيسي في تأخر الاستجابة وبالتالي تضخم حجم الخسائر.
درنة ( ليبيا) - اجتاحت شرق ليبيا فيضانات أودت بحياة أكثر من 2300 شخص على الأقل في مدينة درنة وحدها جراء العاصفة دانيال التي أطاحت بسدين جرفا أجزاء واسعة من المدينة. والمرجح أن حصيلة القتلى أكبر بكثير.
و يرى خبراء أن ارتفاع درجة حرارة البحار والفوضى السياسية وتهالك البنى التحتية عوامل فاقمت تبعات الفيضانات المدمرة التي أودت بحياة أكثر من 2300 شخص في ليبيا.
واجتاحت العاصفة دانيال مدينة درنة الليبية الساحلية المطلة على البحر المتوسط وجرفت السدود الرئيسية إلى جانب أحياء بأكملها نتيجة الفيضانات الناجمة عن الأمطار الغزيرة.
وتشكلت عاصفة دانيال في الرابع من سبتمبر تقريبا، وضربت أجزاء من اليونان وتركيا وبلغاريا الأسبوع الماضي مخلفة عشرات القتلى.
كارثة درنة تضافرت فيها آثار ارتفاع حرارة الأرض وسنوات من الفوضى السياسية ونقص الاستثمار في البنية التحتية
وتنتمي إلى العواصف المتوسطية التي تحمل سمات الأعاصير المدارية والاستوائية، والمعروفة بظاهرة الأعاصير المتوسطية (ميديكيْن)، وتحدث بين مرتين وثلاث مرات في السنة.
وأشارت أستاذة الأرصاد الجوية بجامعة ريدينغ في بريطانيا سوزان غراي إلى أن مثل هذه العواصف تحتاج إلى تدفقات من الحرارة والرطوبة ويعززها ارتفاع درجات حرارة سطح البحر.
وقال علماء شاركوا في اجتماعات تبحث مشكلة آثار التغيرات المناخية في بريطانيا إن “سطح البحر في شرق البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي يعد أكثر دفئا من المعتاد بدرجتين إلى ثلاث درجات مئوية”.
ورجّحوا “أن يكون ذلك وراء هطول الأمطار الغزيرة”. لكنهم قالوا إنه “ليس واضحا ما إذا كان هذا الضغط العالي المستمر، الناجم عن ارتفاع درجة حرارة سطح البحر ونتجت عنه الأمطار الغزيرة، سيصبح أكثر شيوعا في المستقبل”.
وتوضح غراي أن تقرير التقييم الأخير الذي أصدرته اللجنة الاستشارية العلمية التابعة للأمم المتحدة بشأن تغير المناخ، والذي صدر في وقت سابق من هذا العام، خلص إلى أن ارتفاع درجة الحرارة في مختلف أنحاء العالم يزيد من قوة ظاهرة ميديكيْن حتى لو صارت أقل تكرارا.
ويتوخى معظم العلماء الحذر بشأن الربط المباشر بين وقائع طقسية بعينها والتغيرات المناخية طويلة المدى.
وقالت أستاذة علوم المناخ بجامعة بريستول ليزي كيندون إن العاصفة دانيال هي “مثال واضح على نوع الفيضانات المدمرة التي قد نتوقعها بشكل متزايد في المستقبل” مع ارتفاع درجات الحرارة في العالم.
ووفق مرصد كوبرنيكوس لتغير المناخ التابع للاتحاد الأوروبي، فإن ارتفاع درجة حرارة سطح البحر يؤدي إلى موجات حارة ذات مستويات قياسية في بلدان العالم، ومن المرجح أن يكون عام 2023 هو الأكثر دفئا في التاريخ.
وسجل العلماء امتصاص المحيطات 90 في المئة من الحرارة الزائدة الناتجة عن النشاط البشري منذ الثورة الصناعية.
وفي ورقة بحثية نشرت العام الماضي أقرّ عبدالونيس عاشور الخبير في علوم المياه من جامعة عمر المختار في ليبيا بأن درنة معرضة لخطر السيول المتكررة عبر الوديان الجافة واستشهد بوقوع خمسة سيول منذ عام 1942، ودعا وقتها إلى اتخاذ خطوات فورية لضمان الصيانة المنتظمة للسدود في المنطقة.
وأضاف في الورقة البحثية تحذيرا من مغبة وقوع سيول عارمة إذ قال إنها ستكون كارثية على السكان في الوادي والمدينة.
وتحيط تلال بمدينة درنة الواقعة على بعد 300 كيلومتر شرق بنغازي، ويمرّ بها مجرى نهر يجفّ عادة خلال الصيف، لكنه تحوّل بعد انهيار السدين إلى مجرى لتيار قوي من المياه الموحلة التي جرفت معها عددا من الجسور الرئيسية.
وتضم درنة حوالي 100 ألف نسمة. وقد انهار العديد من أبنيتها المتعددة الطوابق على ضفاف مجرى النهر، فيما اختفى الآلاف مع منازلهم ومركباتهم في المياه.
يعتقد بعض المحللين أن المشهد السياسي المقسم في ليبيا، هذا البلد الذي مزقته حرب داخلية ممتدة منذ أكثر من عقد بعد سقوط الرئيس الراحل معمر القذافي في عام 2011، يعد أحد أسباب ما حدث من دمار في الأيام الماضية.
اقرأ أيضا:
وتتنافس على السلطة في ليبيا حكومتان، الأولى تسيطر على غرب البلد ومقرّها طرابلس ويرأسها عبدالحميد الدبيبة وشُكّلت إثر حوار سياسي في مطلع 2021، وأخرى تسيطر على شرق البلاد الذي ضربته العاصفة، ويرأسها أسامة حمّاد، وهي مكلّفة من مجلس النواب ومدعومة من المشير خليفة حفتر.
وتواجه عمليات الإنقاذ تعقيدات بسبب الانقسام السياسي في ليبيا. فحكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها تتمركز في طرابلس غربا، بينما تقع درنة في المنطقة الشرقية وتخضع لإدارة حكومة موازية تسيطر عليها قوات شرق ليبيا (الجيش الوطني الليبي) بقيادة المشير خليفة حفتر.
ووصف عبدالحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة الفيضانات بالكارثة غير المسبوقة. ودعا محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي الليبي إلى الوحدة الوطنية.
ويرى المحاضر في النظم البيئية بجامعة بريطانيا المفتوحة ليزلي مابون أن “ليس هناك شيء ما يسمى الكارثة الطبيعية”.
وقال “على الرغم من أن تغير المناخ يمكن أن يؤدي إلى ظواهر جوية متطرفة تحدث بشكل متكرر، فإن العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هي التي تحدد من هم الأكثر عرضة للخطر”.
وأرجع كيفن كولينز، أحد كبار المحاضرين بالجامعة نفسها، ما نتج من خسائر في الأرواح إلى قدرة ليبيا المحدودة فيما يتعلق بتنبؤات الأرصاد وأنظمة الإنذار والإخلاء.
الظروف السياسية في ليبيا تطرح تحديات أمام محاولات تطوير إستراتيجيات التواصل بشأن المخاطر وتقييمها وتنسيق عمليات الإنقاذ
وأضاف أن ما حدث في البلاد سلط الضوء أيضا على نقاط الضعف في معايير التخطيط والتصميم للبنية التحتية في المدن.
وأشار العلماء الحاضرون في اجتماع التأثيرات المناخية في بريطانيا إلى أن نقاط الضعف في البنية التحتية، مثلما حدث من انهيار للسدود، تجعل الظواهر الجوية المتطرفة أكثر هلاكا وتدميرا.
ويرى مراقبون أن الظروف السياسية في ليبيا تطرح تحديات أمام محاولات تطوير إستراتيجيات التواصل بشأن المخاطر وتقييمها وتنسيق عمليات الإنقاذ، وكذلك إمكانية صيانة البنية التحتية الحيوية مثل السدود.
وقال تيم إيتون من تشاتام هاوس في لندن إنه من بين المشاكل الوطنية والمشاكل المحلية “يبدو الأمر وكأن درنة هي واحدة من أقل المناطق استعدادا للتعامل مع مثل هذه المأساة”.
وتشكو منطقة شرق ليبيا منذ فترة طويلة من أنها لا تحصل على حصة عادلة من ثروة البلاد النفطية. ورغم أن الحكومة في طرابلس وظفت أموال الدولة في بعض أعمال إعادة الإعمار، فإنه لا دليل هناك على حدوث تنمية في الشرق.