المعارض العربية للكتاب.. لنتمثل تقاليد عكاظ والمربد على الأقل

تعتبر معارض الكتب فرصة هامة لا كسوق لبيع الكتب فحسب، وإنما كتظاهرة ثقافية متنوعة الفعاليات، وهو ما ترسخ في المعارض العربية وبات ركنا أساسيا فيها، حيث يقدم كل منها برنامجا ثقافيا متكاملا. ومن ناحية أخرى فإن هذه التظاهرات تتطلب الحضور الفعلي في أغلبها، إذ لم تنجح الوسائط الرقمية في استضافة معارض الكتب.
انطلاقة معارض الكتاب هذا الموسم أو عودة بعضها بعد أن كانت تكتفي بالمنصات الرقمية على إثر انعكاسات كورونا وتداعياتها، تُعدّ بمثابة “عودة الوعي والروح” للثقافة العربية داخل محيطها الجغرافي كالشارقة والرياض والقاهرة وتونس أو خارجه كما هو الحال في دورة مالمو السويدية للكتاب العربي.
ويبقى السؤال المطروح بعد هذا التعافي النسبي: ما الجديد الذي يمكن تقديمه على مستوى التنويع والابتكار في المقترح والمعروض، والمجالات التي ينبغي أن تنفتح عليها هذه المعارض بدل أن تنغلق على صيغها التقليدية كمجرد أروقة لعرض المنشورات إلى جانب بعض ما يتعلق بها مباشرة كتوقيع الكتب وإلقاء المحاضرات على هامشها؟
العلاقة المعقّدة بالكتاب
الأهم من الوفاء لإقامة تظاهرات الكتاب هو الرغبة في الإضافة وحس الابتكار كي لا تكون مجرد سوق تقليدية
المعارض العربية للكتاب بدأت تتفطن إلى أمر آخر غير الكتاب كـ”بضاعة معروضة” بنسختيها الورقية والإلكترونية، وهو تلك النشاطات والتظاهرات المرافقة والموازية للمعرض.
هذا الانفتاح على كل ما يتعلق بالكتاب كوسيلة اتصال معرفي من قريب أو من بعيد، من شأنه أن يجعل من هذه المعارض الدورية “ذريعة” لفتح آفاق نحو التواصل البشري بمفهومها الشمولي.
ولو عدنا إلى أقدم التظاهرات الثقافية التي عرفتها المنطقة العربية كسوقي عكاظ والمربد، لوجدنا أن قراءة القصائد الشعرية لم تكن إلا واحدة من نشاطات كثيرة صلب تلك التجمعات التي تحتفي بحرارة اللقاء والتواصل الإنساني.
كانت تقام إلى جانب خيام الشعر والنقد وبيع مخطوطات الكتب، منصات للتجارة بشتى أشكالها وأخرى لإبرام الاتفاقيات والمعاهدات، وكذلك لإحياء العروض والحفلات التي تعرّف بالموروث الثقافي والغنائي لكل قبيلة.
إن مجرد النظر في هذا التنوع الاحتفالي الذي كان قائما في التراث العربي القديم كفيل بجعله منطلقا نحو تطوير صيغ التظاهرات الثقافية كمعارض الكتب في عصرنا الحالي، هذا بالإضافة طبعا، إلى الاستئناس للتجارب الأوروبية والأميركية في هذا المجال.
أول ما يمكن تسجيله في معارض الكتاب هو التسليم بجدوى وحتمية المنصات الإلكترونية في البيع والشراء والتسويق والقراءة والمتابعة قبل الجائحة، أثناءها وبعدها أي أن الأمر صار من البديهيات، ولكن هل يمكن لها أن تعوض دفء الحضور الفيزيائي، وتستغني حتى عن حفلات التوقيع بالأقلام لتأخذ التوقيعات الإلكترونية محلها؟
تبين، وبما لا يدعو للشك، أن احتفاليات الكتاب لا تعوضها البدائل الافتراضية على المنصات الإلكترونية التي نجحت ـ إلى حد ما ـ في تعويض الحفلات الموسيقية والغنائية، ذلك أن معرض الكتاب أكبر وأوسع وأعمق من مجرد عرض كتاب.
الأمر أشبه بـ”محج” تشترك فيه كل الحواس، ولا تغني عنه المتابعة الإلكترونية، لأن الكتاب ـ وما أدراك ما الكتاب ـ يمثل المنبع والوسيلة والمنطلق والغاية أي أن ما يتعلق به من نشاطات يكاد لا يحصى ولا يعد، فهو ليس صوتا غنائيا أو فيلما سينمائيا نحضره من خلف الشاشة، لذلك كانت ولا تزال العلاقة به شديدة التعقيد.
الخصوصية الثقافية

الحضور الجسدي بالنسبة إلى العارضين والمشاركين والمقتنين والمحاضرين والموقعين على كتبهم أمر لا يمكن الاستغناء عنه في معارض الكتاب، وهو ما يعطي لكل تظاهرة حجمها وخصوصيتها. وإلا كانت استوت وتشابهت المعارض دون تميز، فمعرض الشارقة الدولي للكتاب، مثلا، والذي أقيم هذا العام تحت شعار “هنا.. لك دائما الكتاب الصحيح”، يعد أكبر معرض في العالم هذا العام، حيث ضم 546 ناشرا ووكيلا أدبيا من 83 دولة وكان التواصل والتعارف والتفاعل مع بعضهم البعض لا يمكن تعويضه ببديل إلكتروني، وهو الذي يمثل انطلاقا جديدا لدور قطاعي النشر الإماراتي والعربي في النمو المستقبلي لصناعة النشر العالمية.
كما تتأتى أهمية الحضور الفعلي للمهرجان بأجوائه الاحتفالية كونه يستضيف كل عام دولة في تقليد أخذت به بقية المعارض في العالم كما كانت الشارقة ضيف شرف على كبرى معارض الكتب العالميّة، بدءا من باريس، مرورا بموسكو ومدريد ونيودلهي، وصولا إلى ساوباولو، بالإضافة إلى أنه يأتي بعد أن سجل المعرض تاريخ أكبر فعالية دولية ناجحة تقام في ظروف الجائحة العام الماضي.
وما يثير الفضول للحضور لحما ودما وشعورا لهذا المعرض بالإضافة إلى كثرة تعدد عناوينه وندواته، هو كتب ومخطوطات قديمة ونادرة بعضها مترجم إلى العربية، تحتضنها منصة نمساوية متخصصة في اقتناء الوثائق والمخطوطات التاريخية من أهم المزادات العالمية، حيث يصل سعر الكتاب الواحد إلى 4.5 مليون درهم إماراتي، ويعود تاريخها إلى القرن السابع عشر، وتمثل كنزا ثقافيا وتاريخيا ثمينا، تبلغ قيمتها الإجمالية نحو 8 ملايين يورو.
احتفاليات الكتاب لا تعوّضها البدائل الافتراضية على المنصات الإلكترونية التي نجحت في تعويض الحفلات الموسيقية والغنائية
هذا الصيت المالي والبعد المتحفي والتاريخي للمعرض الذي يشبه ويذكر بامتداد لسوق عكاظ عملاق، قد لا يتوفر لدى نظيره في تونس مثلا، لكن الأخير الذي تأجل أكثر من مرة بسبب الجائحة، سجل في دورته الحالية التي حملت شعار “وخير جليس في الأنام كتاب”، حضورا لإصدارات تونسية جديدة ذات مستويات متميزة، وتكريما للكتاب الفائزين بجوائز المعرض في شتى المجالات. وجاء ذلك تزامنا مع الذكرى 60 لتأسيس وزارة الثقافة على يد الراحل الشاذلي القليبي.
قد لا يمكن لهذا المعرض منافسة الشارقة من حيث ضخامة الإمكانيات، لكنه يطمح لعلاقة تكاملية وتعاونية معها، خصوصا أنه يركّز على الخصوصية الثقافية لتونس وانفتاحها على معارف كونية تثبت من خلالها حضورها كمحطة ثقافية فاعلة على الصعيدين العربي والمتوسطي.
النشاطات الفنية المرافقة لهذا المعرض في دورته السادسة والثلاثين والتي تستمر إلى الحادي والعشرين من نوفمبر الجاري، تتميز بالفرادة والطرافة والابتكار من خلال عدم الجنوح إلى التقليدي والمكرر، حتى في الجدال القائم عن جدوى مثل هذه المعارض في العصر الإلكتروني، حتى أن أحد منتقديه قد استدرك في آخر مدونته “ولكن.. بفضل الكتاب الورقي تعلمت الحروف التي تبحر بي نحو الكتاب الإلكتروني”.
بات واضحا أن الأهم من الوفاء لإقامة تظاهرات الكتاب هو الرغبة في الإضافة وحس الابتكار كي لا يكون الأمر أشبه بإقامة سوق تقليدية بمحاذاة “مولات” حديثة وبأبسط التكاليف، لا لشيء وإنما على سبيل الحنين والإخلاص للتقاليد. الكتاب هو كناية عن المعرفة والشغف بها الذي لن يضمحل عبر التاريخ، لذلك وجب تطوير أساليب الاحتفاء بالمعرفة.
