المعارضة المصرية من الداخل انفتاح سياسي وتدجين أيضا

النظام بحاجة إلى معارضة تنسجم مع توجهاته الرئيسية.
الأحد 2023/02/19
الإفراج عن هشام جنينة في هذا التوقيت يثير الكثير من التساؤلات

رافقت سماح النظام المصري بعودة بعض المعارضين المحسوبين على التيار المدني تأويلات مختلفة، فهناك من رأي فيها انفتاحا ومؤشرا على حدوث تغيير، لكن الغالب على الظن أن مثل هذه الخطوة هي أقرب إلى التنفيس، فهو انفتاح يخدم النظام بتحسين صورته، وفي نفس الوقت يضع المعارضة المدنية تحت جلبابه.

تعتقد دوائر مراقبة في القاهرة أن انفتاح النظام المصري على المعارضين له في الخارج وإتاحة الفرصة أمام بعضهم للعودة إلى الداخل رسالة إيجابية ودليل على توجهات جديدة نحو المزيد من الإصلاح السياسي، وزاد هذا الحديث عقب عودة المعارض ممدوح حمزة مؤخرا والترحيب به في القاهرة ترحيبا لافتا.

وذهبت دوائر أخرى إلى أن عودة حمزة وقبله عمرو حمزاوي والمخرج خالد يوسف ليست دليلا على الانفتاح أو أن تغييرا كبيرا يحدث في المشهد العام، وعودة هؤلاء هي ورقة تستثمرها القاهرة لتأكيد ترحيبها بالمعارضة المدنية بطريقة انتقائية.

ويمكن القول إن عودة شخصيات معارضة لم ترتكب عنفا أو تحضّ عليه تطور مهم في السياق العام ومؤشر انفتاح سياسي لا يخلو من معاني التدجين أيضا، وما يجعل الموقف يميل إلى هذا أو ذاك هو طريقة تعامل قوى المعارضة مع الواقع الذي دخلت عليه تغييرات كبيرة خلال السنوات الماضية فرضت التعامل معه بصورة دقيقة ومحسوبة، لأن الأجواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا تحتمل مناكفات مفتوحة.

◙ مع اقتراب الانتخابات الرئاسية يحتاج النظام إلى شكل ديمقراطي لائق يمهد لإعادة انتخاب السيسي
مع اقتراب الانتخابات الرئاسية يحتاج النظام إلى شكل ديمقراطي لائق يمهد لإعادة انتخاب السيسي

وتتوقف النتائج المترتبة على عودة ممدوح حمزة والإفراج عن رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات هشام جنينة قبل أيام، على محددين أو سؤالين، الأول: هل النظام المصري عازم على تعديل رؤيته السياسية، وفي مقدمتها تعامله مع المعارضة والتحلل من مسألة التضييق المفروضة على تحركاتها في الشارع؟

والمحدد الثاني: هل القوى المعارضة، فرادى أو جماعات، قادرة على الضغط لأجل إجبار أو إقناع النظام المصري بوجوب توسيع الهامش السياسي في الفضاء العام؟

جاء المحددان/ السؤالان من رحم اجتهادات عديدة تنتشر في الشارع العربي وتبحث عن فهم لحالة مصرية زاد التشويش حولها بعد تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية.

وعبرت جملة من التطورات عن بوادر تغيير في الداخل لجهة التعامل مع المعارضة، وأبرزها الدعوة إلى الحوار الوطني منذ نحو عام، ومع أن هناك درجة كبيرة من البطء تؤخذ على هذا الحوار، غير أن إطلاقه بمشاركة أحزاب وشخصيات على يمين ويسار النظام الحاكم يعزز فكرة عدم إنكار دور المعارضة.

ويشير إلى تعديل في المنهج الإقصائي، خاصة أن مبرر عدم الهدوء والأمن والاستقرار الذي استخدم عقب إزاحة جماعة الإخوان من السلطة تم تجاوزه، واستردت الدولة عافيتها وأعلنت التخلص من الإرهاب وفلوله في سيناء.

ولم تمض المؤشرات الإيجابية إلى مداها النهائي في مجال فتح كل الأبواب والمنافذ أمام المعارضة، لكنها بدت رسالة دالة على إمكانية استيعاب النظام المصري للكثير من معارضيه، وظهرت ملامح ذلك في ارتفاع منسوب الانتقادات الموجهة إليه في بعض وسائل الإعلام، لاسيما في طريقة التعامل مع الأزمة الاقتصادية.

ويحتاج النظام المصري إلى معارضيه في الداخل أكثر من أي وقت مضى، لأنه مقبل على خطوات كبيرة في مجال الخصخصة وبيع شركات حيوية، إذا تصرف بمفرده سيتعرض للمزيد من التشكيك في تصوراته، كما أن وجود أصوات معارضة يمكن استثماره في مواجهة الضغوط التي قد تتعرض لها القاهرة في عمليات البيع ونوعية الشركات المطروحة، فالضجيج الذي يمكن أن تثيره المعارضة له نتائج إيجابية.

◙ عودة شخصيات معارضة لم ترتكب عنفا أو تحضّ عليه تطور مهم في السياق العام ومؤشر انفتاح سياسي لا يخلو من معاني التدجين

ويتوقف الأمر على مدى التفاهم بين النظام والقوى المعارضة في الداخل والقدرة على استعادة العافية السياسية التي فقدتها بسبب الحصار الذي تعرضت له وفشلها في تصحيح الأوضاع في هياكلها الداخلية، لذلك فإن العبرة ليست في عودة شخص أو أكثر أو الإفراج عن العشرات من المعتقلين السياسيين، بل في نجاح المعارضة في استرداد قوتها في الشارع الذي هجرته قسرا أو طوعا طوال السنوات الماضية.

ويبدو النظام المصري بحاجة إلى معارضة تتوافر فيها متطلبات متعددة وتنسجم مع توجهاته، أي تعارض في الحدود الدنيا، ولا تمس ثوابته السياسية، ولا تتطور معارضتها إلى خشونة وتصل إلى الشارع، ولا تمتد إلى النقابات، وهي معارضة منزوعة الدسم، لن تقدم أو تؤخر في المشهد العام، ويتم استخدامها كنوع من الديكور السياسي الذي يضفي حيوية على النظام من دون تأثير حقيقي فيه، سلبا أو إيجابا.

وتؤدي هذه النتيجة إلى ما يعرف بـ”التدجين”، ويتعلق بعملية التحكم في مفاصل خطاب المعارضة، فهناك العشرات من الأسماء المصرية التي عادت وأفرج عنها مؤخرا ولم تمارس فعلا سياسيا لافتا، وتنحصر ممارساتها غالبا في بضعة تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، وعدد منها انزوى وآثر البقاء في المنزل بلا اشتباكات سياسية.

ويؤكد هذا الاستنتاج أن عودة شخصيات معارضة وإدراج بعضها على قوائم العفو الرئاسي يتمان وفق تفاهمات سياسية أو صفقة ضمنية مع السلطة الحاكمة تقتضي التخلي عن الفعل المعارض بلا ضوابط، أو على الأقل الالتزام به في الحدود الدنيا، وهو ما يفسر عدم الشعور بأي دور لمن عادوا أو أفرج عنهم.

ولدى البيروقراطية المصرية قناعة راسخة بشأن وضع المعارضين للسلطة تحت أعينها في الداخل أفضل من تركهم يهيمون على وجوههم في الخارج، فالحالة الأولى تجعلهم متابعين وإيقاعهم يمكن ضبطه عندما ينحرف عن المسار المرسوم له.

بينما الثانية بعيدة عن السيطرة وخاضعة لإجراءات وتقديرات دول أخرى، ربما لا تكون على وفاق مع مصر أو يحتاج الوفاق معها حول ورقة المعارضة تنازلات وتضحيات سياسية، كما هو الحال مع كل من قطر وتركيا.

وتدرك المعارضة المصرية أنها مهما كبرت قوتها في الخارج فإن قدرتها على التأثير في الداخل ستظل محدودة، حيث ينظر إليها على أنها “معارضة بأجر” أو تخدم أجندات دول أخرى، ما يعني أن دورها محدود ويخضع دوما لشكوك. وهو ما يفسر لماذا لم تتمكن جماعة الإخوان، بعد مضي نحو عشر سنوات من ثورة يونيو 2013، من جذب شريحة من المصريين إليها من خارج مؤيديها.

وضرب النظام المصري عدة عصافير سياسية بحجر واحد عندما بثّ في نفوس الشخصيات المدنية المعارضة أمل العودة من الخارج وأفرج عن آخرين تم سجنهم في قضايا سياسية وحريات، واستثنى في الحالتين عناصر الإخوان من العودة والإفراج.

فقد أكد أن الإخوان تنظيم غير وطني ولا تستحق عناصره شرف المعارضة من الداخل، وأن وجودهم في الخارج غير مؤثر ولا يزعج النظام المصري مهما تصاعدت حملات التحريض عليه، والمعارضة المدنية هي المعارضة الحقيقية المقبول بها في مصر، الأمر الذي يفرض على تنظيم لإخوان التخلي عن الكثير من الثوابت التي تمسك بها في السنوات الماضية.

وتعرف قوى المعارضة المصرية أنها لن تحدث تغييرا مهما طال وجودها في الخارج، وعودة البعض من رموزها إلى الداخل تنطوي على أمل في إحداث حراك سياسي لم يعد النظام الحاكم يلفظه نهائيا، ومع اقتراب إجراء الانتخابات الرئاسية في منتصف العام المقبل يحتاج إلى شكل ديمقراطي لائق يؤكد وجود عملية انتخابية جادة يتفوق فيها الرئيس عبدالفتاح السيسي على كل منافسيه عند إعادة انتخابه مرة أخرى.

ولذلك تحمل التطورات المتلاحقة في آليات التعاطي مع المعارضة صفتي التدجين والانفتاح السياسي معا، وتتوقف غلبة أحدهما على المساحة التي يسمح بها النظام المصري لممارسة فعل المعارضة السليم، ودرجة استثمار قوى المعارضة بارقة الأمل التي ظهرت أمامها وتحويلها من فرصة وهمية إلى حقيقية.

4