المصير المجهول لمهاجرين من قطاع غزة يزيد من مأساة أسرهم

المعاناة النفسية للعائلات تتزايد مع تعذر العثور على جثث المفقودين.
الاثنين 2023/06/26
العائلات المكلومة تستجدي مصير أبنائها

يدفع الفقر والعجز عن سد حاجة الأسر في غزة رجالها وشبابها إلى الهجرة إلى أوروبا بحثا عن فرصة عمل وأملا في تحقيق حياة كريمة. لكن هذا الأمل قد يتحول إلى كابوس لا ينتهي أمام غموض مصير عدد منهم، ما يجعل أسرهم تعيش معاناة نفسية حادة تتزايد مع تعذر العثور على جثثهم. ويفقد المئات من الفلسطينيين من قطاع غزة حياتهم نتيجة خطورة المسارات البحرية التي يسلكونها في هجرتهم.

غزة - تمضي الأيام ثقيلة جدا على الفلسطينية ميساء مسعود من قطاع غزة منذ فقدان آثار زوجها إسماعيل قبل نحو تسعة أشهر لدى محاولته الهجرة بحرا إلى أوروبا. ومنذ أكتوبر 2022 لم تتلق ميساء أي أخبار بشأن زوجها (33 عاما) الذي اختفى إثر حادثة غرق قبالة السواحل الليبية الأمر الذي يتركها أمام واقع تصفه بالمأساوي على جميع الأصعدة.

وتقول ميساء وهي في نهاية العشرينات من عمرها لوكالة الأنباء الألمانية، إنهم لم يتلقوا أي خبر رسمي بشأن تأكيد وفاة زوجها أو احتمال إنقاذه بعد تعذر العثور على جثته في غياب أي قنوات رسمية تؤكد مصيره. وتضيف أن حلم زوجها بالهجرة إلى أوروبا ومن ثم سفرها وأطفالهما الثلاثة بعد حصوله على الأوراق الرسمية اللازمة تحولا إلى "كابوس لا ينتهي".

وكان إسماعيل وهو من سكان مدينة غزة يعمل بائعا متجولا، ما تركه ضحية للفقر والعوز وقلة الحيلة أمام سد الاحتياجات الأساسية لعائلته ليقرر محاولة الهجرة إلى أوروبا بحرا من ليبيا. لكن، عن رحلته المشؤومة، لم تعلم عائلته إلا بنبأ غرق قارب مهاجرين كان على متنه وفقدان آثاره حتى اليوم.

وتقول ميساء إن الأصعب من الاحتمال الأقوى لوفاة زوجها هو استمرار هذا الواقع الغامض، ما جعلها "معلقة في الهواء" كما تشير، لا تملك أي مؤشر يساعدها على تحديد مصيرها وأطفالها. وتضيف بنبرات من الأسى "للأسف وصل بي الحال إلى تفضيل أن أتأكد من وفاة زوجي بشكل رسمي على أن أبقى في هذا الوضع الغامض".

وتمثل هذه السيدة مثالا للعشرات من العائلات في قطاع غزة التي تعاني من مأساة تبعات اجتماعية ونفسية وخيمة منذ فقدان آثار أبنائها خلال محاولتهم الهجرة إلى أوروبا على مدار السنوات الأخيرة.

◙ حرقة الفراق تترك لوعة في نفوس الأمهات
◙ حرقة الفراق تترك لوعة في نفوس الأمهات

وبحسب الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد)، فإنها رصدت فقدان آثار 362 فلسطينيا من سكان قطاع غزة في البحر خلال محاولات الهجرة إلى أوروبا منذ عام 2014. وتشير الهيئة إلى أن هؤلاء وغالبيتهم العظمى من فئات الشباب كانوا يحاولون الهجرة من قطاع غزة إلى دول أوروبا بحثا عن حياة كريمة وهرباً من حالة الفقر التي يعانوها.

وتنامت ظاهرة محاولة الهجرة من غزة منذ فرض إسرائيل حصارها المشدد عليها منتصف عام 2007 على إثر سيطرة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على الأوضاع في القطاع بالقوة. وبفعل الحصار يعاني سكان قطاع غزة البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة، من نسبة فقر تتجاوز 70 في المئة، فيما تبلغ نسبة البطالة 47 في المئة، فضلا عن تداعيات جسيمة لتكرار حروب إسرائيل وجولات التوتر بشكل سنوي.

ويقول مدير المركز الإعلامي الحكومي في غزة سلامة معروف لوكالة الأنباء الألمانية إن الحصار الإسرائيلي كعنوان كبير هو "أحد أهم العوامل التي أثرت على قلة فرص العمل ما يؤثر سلبا على فئة الشباب في القطاع". ويشير معروف إلى أن غالبية المجتمع في قطاع غزة هم من فئة الشباب وهي الفئة الأكثر إقبالاً على طلب العمل إلا أن حالة الجمود التي وصلت إليها القطاعات الاقتصادية المختلفة بفعل الحصار تحول دون توفر الفرص اللازمة لهم.

ويضيف أن كل من يخرج من قطاع غزة يخرج بطريقة رسمية سواء عبر معبر رفح مع مصر أو حاجز إيريتز (بيت حانون) الخاضع للسيطرة الإسرائيلية “فيما مسألة الوجهة التي يذهب إليها المغادرون أو الهدف من السفر هي المسألة التي يصعب تحديدها". ويعتبر معروف أنه "في غياب الإحصائيات الدقيقة لأعداد المهاجرين من قطاع غزة وتحديد وجهتهم وهدفهم على مدار السنوات الأخيرة فإنه يجري المبالغة في الظاهرة والتهويل في الأرقام المقدرة".

ورغم الكلفة الباهظة لرحلة الهجرة التي تتراوح بين 10 و20 ألف دولار أميركي، يختار شبان من غزة خوض المغامرة أملا في حياة أفضل حال تقديم طلبات اللجوء في أوروبا. وبحسب منظمات حقوقية فإنه نتيجة خطورة المسارات البحرية التي يسلكها المهاجرون وطالبو اللجوء، فقد المئات من الفلسطينيين من قطاع غزة حياتهم غرقًا أثناء محاولات الهجرة التي تصاعدت على نحو ملحوظ بعد حرب إسرائيل عام 2014.

وشكلت نهاية حياة هؤلاء أو فقدان آثار الكثير منهم بداية لفصول ممتدة من المعاناة بالنسبة إلى عائلاتهم، التي أضحت أمام تحديات اقتصادية واجتماعية وقانونية معقدة. ويقول المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إن من أبرز المعضلات التي تواجه زوجات المفقودين تحديدا عدم قدرتهن على تحويل حالاتهن الاجتماعية من "متزوجات" إلى "أرامل"، وبالتالي بقاؤهن لسنوات دون مستقبل واضح، ودون قدرتهن على المضي قدما في حياتهن أو الزواج من آخرين.

وتتسبب في ذلك عدة اعتبارات اجتماعية وعوامل وإجراءات قانونية تدفع بغالبية النساء إلى عدم الرغبة أو القدرة في اتباع الإجراءات اللازمة لإعلان أزواجهن متوفين، وبالتالي تحويل حالاتهن الاجتماعية إلى "أرامل" والحصول على حقوقهن تبعًا لذلك. من هؤلاء صابرين راضي التي مضى على فقدان آثار زوجها زياد (46 عاما) أربعة أعوام كاملة من دون أن تتمكن من تحديث حالتها الاجتماعية.

◙ عائلات المهاجرين المفقودين تبقى أسيرة المعاناة النفسية الحادة بسبب عدم اليقين بشأن مصير أبنائها مع تعذر العثور على جثثهم

وتقول صابرين لوكالة الأنباء الألمانية إن معوقات اجتماعية وقانونية تمنعها من أي تحديث لحالتها الاجتماعية بالنظر إلى عدم امتلاكها دليلا ملموسا على وفاة زوجها وبقاء اعتباره في وضع المفقود. وتشير إلى أن العادات والتقاليد الاجتماعية تستنكر احتمال طلب الزوجة الطلاق في المحكمة أو احتمال الزواج بشخص آخر في ظل استمرار وضع زوجها كمفقود وبالتالي وجود أمل ولو ضئيل جدا بعودته.

وفي الوقت ذاته فإن العائلة لا يمكنها الاستفادة من الميراث إلا في حال إعلان وفاته الحكمية، وهو ما ترفض كثير من العائلات فعله خوفًا من الوصمة الاجتماعية، أو فقد بعض المخصصات المالية التي تحصل عليها بحكم فقدان المهاجر.

وعليه فإن عائلات المهاجرين المفقودين تبقى أسيرة المعاناة النفسية الحادة بسبب عدم اليقين بشأن مصير أبنائها مع تعذر العثور على جثثهم. وحتى العائلات التي بدت “سعيدة الحظ” بالعثور على جثث أبنائها من المهاجرين المفقودين فإنها واجهت صورة أخرى من المعاناة تتمثل في التحقق من جثث أبنائها الغرقى.

وفي هذا الصدد يقول مدير دائرة الطب الشرعي في وزارة الصحة في غزة أحمد ظهير إن الأصل أن تتم عملية التشريح في مكان الوفاة، وهذا البروتوكول الدولي المتعارف عليه، لأن الحالة الطبية القضائية تصبح غامضة مع مرور الوقت. ويوضح ظهير أن العينات الحيوية في قطاع غزة قاصرة بسبب عدم وجود أجهزة لفحص تلك العينات ومعرفة المركبات الكيميائية في الدم، بفعل منع السلطات الإسرائيلية إدخال تلك الأجهزة، فيما لا تعطي الأجهزة الموجودة لديهم نتائج دقيقة للعينات.

ويبرز واقع عدم توفر فحوصات الحمض النووي في قطاع غزة جراء عدم توفر الإمكانيات اللازمة وعادة ما يتم إجراؤها في مصر. وينبه ظهير كذلك إلى صعوبات نقل عينات الحمض النووي من قطاع غزة إلى الخارج، والتواصل مع الجهات المسؤولة عن عمليات الدفن في الدول التي يعتقد أن المهاجرين فقدوا أو توفوا فيها.

◙ حرقة لا تنتهي
◙ حرقة لا تنتهي 

16