المصممة هالة المدفعي: روح المكان نشكّلها فتشكلنا

تعتقد هالة المدفعي، خبيرة العمارة الداخلية المعاصرة، أن التناغم الجمالي والهوية المرئية المتكاملة يخلقان عبقرية الأمكنة ويجسّدان البراعة التصميمية، من هنا تتجسد فلسفة المدفعي في التصاميم المكانية التي تستلهم التاريخ والحضارة عبر تقديم منجز إبداعي متحفي يستدعي روح التراث الثقافي بتقنيات العصر والأساليب الحديثة ليعطي أبعادا جديدة للقيم الجمالية.
يعتبر تصميم الأماكن والهندسة المعمارية، بشكل عام، عملية اتصالية قوامها المشاركة الوجدانية والمعرفية والجمالية بين المكان والإنسان/المصمم ثم الإنسان المتلقي؛ فالعمل التصميمي هو وسيلة الاتصال، أما محتوى التصميم من رؤية ودلالات ورموز فهو الرسالة التي تنتظر التأويل.
انطلاقا من هذه الفلسفة، تعمل المصممة العراقية هالة المدفعي متسلحة بعقلية تؤمن بأنه يجب أن يكون هناك ترابط بين الإنسان والمكان. وتراهن المدفعي على تعميق هذه العلاقة التفاعلية بين المكان وزائريه عبر توظيف عنصر الغموض والألغاز والإيماءات التصميمية لتشويق المتلقي وإدماجه في رحلة عقلية تأملية في أرجاء وتفاصيل ومفردات المكان لتفسيرها بالاعتماد على خبراته الشخصية وذاكرته الصورية.
وتشرح في حوار مع “العرب”، فلسفتها مشيرة إلى أن عنصر الإبهار هو جوهر العملية التصميمية، فالأعمال المفهومة تكون مملة أما الغموض المعتدل فيزيد الإثارة ويعمّق انخراط الفرد في المكان وأجوائه، والمصمم الناجح برأيها هو الذي يمزج الوضوح والغموض؛ بمعنى أنه يستقطب اهتمام المتلقي بالرموز والإشارات الواضحة ولكنه لا يكشف كل أوراقه بل يمنح المتلقي فرصة الاستمتاع باكتشاف مكنونات العمل التصميمي.
يشكّل مفهوم الإبداع عند المدفعي ضرورة اجتماعية وخدمية، فالفن الخلّاق باعتقادها هو ترجمة لحاجات المجتمع وليس تعبيرا عن مشاعر الفنان فقط وفق المفهوم التقليدي للفن. لذلك هي تصف المصمم الناجح بأنه شخص مبدع يساعد الناس على العيش في مساحات تحفزهم على الإبداع والتطوّر، مشدّدة على أن سر نجاح أي مصمم هو ألا يرضى بأقل من الإبداع، وأن يفكّر بطريقة تحرّرية تتحدى الأفكار التقليدية وتتمرد على المألوف،
وأن يكون رخاء الإنسان هو البوصلة في أعماله.
المبدأ الآخر الذي تقوم عليه فلسفة المدفعي، يحمل أبعادا اجتماعية. وتتجسّد البوصلة الإنسانية لأعمالها في الاهتمام بالتسهيلات التصميمية المتعلّقة بكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة في إطار فلسفة عمرانية تريد للمكان الذي يتم تصميمه أن يكون جزءا من رأس المال الاجتماعي وبوتقة اندماج وتعايش وتنوّع وأن يحتضن كل فئات المجتمع.
وتنعكس هذه الفلسفة في الكثير من أعمال المدفعي، من ذلك مشروع الفصول الدراسية لأشخاص يعانون من التوحّد ومن متلازمة داون في نيوزيلندا.
وتشرح المدفعي رؤيتها قائلة إن التصميم المكاني هو كيفية خلق فضاء أفضل للعيش والرفاهية والتقدّم الشخصي والاجتماعي، وأن غايته جعل حياة الإنسان أسهل والارتقاء بنوعيتها بحيث يستطيع أن يعيش ويعمل ويستفيد من الأبنية والمؤسسات والخدمات بالمزيد من المنفعة وبأكبر قدر من الراحة والأمان.
ويلاحظ في المنجز الجمالي لهالة المدفعي تعاملها مع المكان باعتباره شخصية متكاملة قلبا وقالبا، وحرصها على تناغم التصميم الداخلي مع الواجهات الخارجية ليشتركا في تشكيل الهوية الجمالية للأبنية والمساحات والمناظر الطبيعية والمدن؛ بما يخلق نوعا من الاتّساق التصميمي بين الباطن والظاهر ويحافظ على التوافق العمراني واللوني بين الأماكن ويجعل حواس الإنسان في حالة من الرضى والفاعلية.
وتوضح المدفعي أن التصميم المكاني هو حاجة مجتمعية عامة وليس ترفا أو رغبة نخبوية، فكل الناس يحتاجون إلى مدارس ومستشفيات وفضاءات مفتوحة مصمَّمة بطريقة سليمة وتراعي احتياجات الفئات المختلفة. وتؤكد أن التصميم عنصر وظيفي ضروري لأي كيان حضري سواء كان مدينة أو مبنى كي يشتغل بكفاءة، وهو مطلب تنموي وإنتاجي لأي مجتمع في سعيه للوصول بتجربته الحياتية إلى درجة الرفاه المتكامل.
كما تلفت إلى وظيفة أخرى للتصميم المكاني، وهي التوثيق التاريخي. فالكثير من المعلومات عن الحضارات القديمة جاءت عن طريق تحليل التكوين المعماري والتصميمي للقصور والمعابد الأثرية والنقوش والرموز المدوّنة على جدرانها. وتحاكي المدفعي هذه الوظيفة في أعمالها المعاصرة من
خلال إضفاء الطابع المتحفي عليها كي تكون جزءا من هوية حضارية ممتدة وعابرة للأزمنة.
ولكل فلسفة تصميمية وقتها وموجباتها عند هالة المدفعي، فقد تلجأ أحيانا إلى نظرية “القليل يعني الكثير” فتميل إلى البساطة والتجريد؛ لكن الرؤية التصميمية قد تلزمها أحيانا باعتماد مقاربة “القليل يعني الملل” فتقرر إثراء المشهد المكاني بالمزيد من التنوّع والتباين والتداخل بين المكونات الجمالية والبصرية.
حصلت هالة المدفعي على بكالوريوس الفنون الجميلة من جامعة بغداد عام 1985. وبعد هجرتها من العراق دفعها مفهومها للإبداع، باعتباره نمطا من التفكير العلمي التركيبي والممارسة التطبيقية، إلى إكمال دراستها لتحصل على ماجستير التصميم المكاني من جامعة أوكلاند للتكنولوجيا في نيوزيلندا عام 2001. ثم تواصل العمل لتطوير خطابها الجمالي المتمحور حول القيمة العملية للمنجز الإبداعي وجدواه الاقتصادية إيمانا منها بأن لا شيء في هذا العالم يمكن أن يترك للارتجال والعفوية والانفعالات التلقائية بما في ذلك الإبداع.
فن أم علم
تشرح المدفعي شغفها بالتصميم فتقول إن “الفنان التشكيلي يرسم لوحة ثنائية الأبعاد ليتأملها المتلقي بصريا؛ بينما هاجسي كمصممة هو تحويل الرسومات التخطيطية إلى عوالم ثلاثية الأبعاد وأمكنة نابضة بالحياة يعيش وينخرط فيها المتلقي بكل حواسّه”.
وفي حين يؤكد الفنانون عادة على دور الخيال ومشاعر الفنان في خلق العمل الفني تجادل هالة المدفعي بأن التصميم الداخلي هو حقل معرفي يعتمد على قواعد منهجية ولا مجال فيه للانفعال الذاتي للمصمم إلّا بما ينسجم مع حاجة العمل، فتقول “نحن ندرّس علم النفس لطلبتنا ليكونوا على دراية تامة بتأثير الألوان والأشكال على نفسية وسلوك الإنسان فيكون خيالهم الإبداعي محكوماً دائما بالضوابط العلمية والمهنية وحاجة المستفيدين من أعمالهم، وهذا هو الفرق بين التصميم الداخلي والفن التشكيلي على سبيل المثال”.
الاعتماد على الذات
استطاعت هالة المدفعي خلال سنوات عملها إثبات كفاءتها كمصممة لها بصمتها على المستوى العالمي، ووضعت توقيعها على مشاريع سياحية وسكنية وتعليمية وثقافية وخدمية وتجارية في إسبانيا وفرنسا وألمانيا وأوكلاند ودبي ولندن.
وكانت مسيرتها المهنية جزءا من مسار عالمي شهد سيادة مفهوم “اقتصاد التجربة” حيث تتنافس الشركات على أن تجعل المستهلك يعيش “تجربة وجدانية” متميّزة مع ما تقدمه من خدمات، بمعنى أن القيمة الاقتصادية للمكان السياحي أو الخدمي باتت تعتمد على ما يوفّره للمستهلك من أجواء عاطفية وجمالية تستثير مشاعر الزائر.
وهنا تلعب تقنيات التصميم دورا مهما في خلق روح وهوية متميزة للمطاعم والفنادق والمراكز التجارية لتعظيم تجربة الرفاه التي يعيشها المستهلكون، حيث توضح المدفعي أن تصميم الأمكنة يخضع لشروط الوظائف الاجتماعية والاقتصادية التي تؤديها، فبعض المطاعم التي تحمل علامة تجارية محددة مثلا تكون ذات نسق واحد في تصميمها الداخلي في كل فروعها حول العالم بهدف خلق صورة ذهنية مميزة للمستهلك عن المكان الذي سيرتاده والتجربة التي سيعيشها.
في المقابل، هناك أماكن سياحية يتم تصميمها بصورة متجددة وغير تقليدية لتقديم تجربة شعورية وجمالية مثيرة للمستهلك. وهذا ما قدمته هالة المدفعي في الإمارات من خلال تصاميم تجمع بين الثقافتين الشرقية والغربية بحيث يعيش الزائر هذا التواصل بين عالمين خلال تجربته في المكان الذي يزوره. ولكن في أعمال أخرى في نيوزيلندا كان تركيزها على توفير الأجواء الغربية مع تقديم أيقونات ورموز في المكان تشير إلى ثقافات الشرق بحيث يعيش الزائر ثقافته المحلية مع إطلالة على ثقافات أخرى.
وتلفت إلى أن البيئة الجغرافية والمناخية تترك بصمتها على الأنماط التصميمية والمعمارية المعتمدة في المدن وهو ما يأخذه المصمم بعين الاعتبار لأن الإنسان يرغب في الاندماج في البيئة الطبيعية والاجتماعية بعيدا عن النشاز التصميمي أو التنافر العمراني الذي تكون له آثار سلبية على المستوى النفسي وعلى مستوى الوظيفة التي يؤديها المبنى.
الطفرة الرقمية
أدت التحولات الرقمية التي شهدها العالم إلى تحوّلات مفاهيمية في قطاع الأعمال والإنشاءات. وباتت الكلمة العليا للتقنيات الإلكترونية والصناعية الحديثة. والمصمم المحترف اليوم، كما تراه هالة المدفعي، هو الذي يمتلك أدواته العلمية ويتّسم بالذكاء المهني والرؤية المؤسسية بحيث يستطيع توظيف التكنولوجيا في العمل بما يخدم تطبيق رؤيته الإبداعية على أرض الواقع.
وتضيف المدفعي “سابقا كنا نعتمد على الرسوم التخطيطية والخيال في تصوّر المكان قبل الشروع في التنفيذ، أما اليوم فيمكن من خلال برامج الكومبيوتر أن نشاهد المكان مجسّما بكل مفرداته قبل العمل، ويمكن للزبون أن يطلع على تفاصيله كاملة قبل الموافقة عليه، وهذا كانت له آثار إيجابية اقتصادية ومهنية فرؤية العمل قبل تنفيذه تتيح للمصمم أن يبدع أكثر في تطوير العمل وتسمح للزبون بأن يرى العمل قبل دفع المال”.
المزاوجة بين الروح المحلية والانفتاح الكوني

من مشاريع هالة المدفعي الأكثر شهرة مسجد الفاروق عمر بن الخطاب في دبي، ومسجد آمنة بنت أحمد الغرير في عجمان. وشمل عملها التصميم الداخلي والخارجي والمناظر الطبيعية. وفيهما استخدمت التقنيات الرقمية في خلق صورة بصرية حية للمسجد قبل البناء. وعملت في المسجدين على تضمين التصميم الدلالات الرمزية والشواهد التي تعبّر عن الهوية الدينية والحضارية للمكان، فمن خلال التكامل بين العناصر المعمارية والإنشائية والتصميمية استطاعت المدفعي أن تخلق أجواءً وعوالم جمالية تحاكي الموروث الثقافي وتستثير مشاعر الزوار وتثري تجربتهم الروحية والوجدانية في المكان.
وتعتمد المدفعي الزخرفة كمدخل تصميمي لتحقيق مزيج إبداعي يحاكي الطرز الجمالية القديمة بأسلوب حديث، فالزخارف، كما تقول هي “تراث عالمي مشترك بين الثقافات ولكنها في نسختها التي تطوّرت في ظل الحضارة الإسلامية تتميّز بكثرة النجوم وهي طاغية على تراث المنطقة العربية بحكم الثقافة السائدة. ولذلك وجدنا في توظيف الأعمال الزخرفية والأقواس وفق استلهام معاصر مقاربة تصميمية كفيلة بتحقيق الممازجة بين الروح المحلية والانفتاح الكوني”. وفي شرحها لفلسفتها في تصميم الأماكن التي تستلهم الهوية التاريخية والحضارية، تقول المدفعي إن “الحلول التصميمية التي يتبناها المصمم تتأثر بالعوامل الثقافية والاجتماعية والبيئية لأن فلسفة التصميم المكاني في الأساس هي خلق التوافق والتناغم وإدماج الإنسان في بيئته وبناء علاقة صحية ومثمرة وممتعة تربطه بالمكان، ولذلك كانت الزخرفة جزءا من السياق الجمالي والتصميمي الذي نعمل عليه، كما أن أي مكان يتم تصميمه تكون له شخصيته المميزة وخصوصيته الجمالية والثقافية، وبالتالي كانت الزخرفة مكوناً من مكونات شخصية المكان وهويته البصرية”.
وتبيّن أن التفكير التأمّلي هو زاد المصمم فهو دائما في حالة تفكير وبحث عن الحقيقة تأخذه ربما إلى آفاق فلسفية وتأمّلات صوفية، وهذا ما أحسّت به في تصميمها للمساجد حيث كانت تجد نفسها مطالبة بتقديم مواءمة بين “المطلق” المتمثّل في الدين وبين “النسبي” الذي هو الحيّز المكاني الذي عليها أن تجسّد فيه أفكارها التصميمية وكيف يمكن التعبير عن اللامحدود واللانهائي باستخدام أدوات محددة بالمكان والزمان.