المصريون يحتفلون بشم النسيم.. عيد الحياة والرنجة

يحتفل المصريون بشم النسيم مع قدوم فصل الربيع، وهو عيد يرمز إلى الحياة والانبعاث منذ عهد الفراعنة، ويتميز بتقاليد غذائية مميزة أبرزها تناول الرنجة والفسيخ وسط أجواء عائلية مبهجة في أحضان الحدائق والحقول الخضراء.
القاهرة - مع بداية فصل الربيع من كل عام، يحتفل المصريون بمهرجان “شم النسيم”، أحد أقدم الأعياد الشعبية في العالم، والذي يحمل بين طياته طقوسا تعود إلى الآلاف من السنين، ويجمع بين الاحتفاء بالحياة والطبيعة وتقاليد غذائية متوارثة، أبرزها تناول الأسماك المملحة مثل الرنجة والفسيخ.
ويعود أصل الاحتفال بشم النسيم إلى عهد المصريين القدماء، حيث كان يُعد رمزا لبداية خلق الكون وانبعاث الحياة. وقد حرص قدماء المصريين على الاحتفاء به بالخروج إلى الحدائق والحقول، ومراقبة الظواهر الفلكية المرتبطة به. ومن أغرب ما ارتبط بهذا العيد، ما كان يحدث أمام الواجهة الشمالية للهرم الأكبر قبيل غروب الشمس، إذ كان المصريون يتجمعون لرؤية قرص الشمس وهو يميل نحو الأفق الغربي حتى يلامس قمة الهرم، فيبدو كأنه يستقر عليها، في مشهد بصري مدهش، لا يزال يتكرر حتى اليوم مع قدوم الربيع في الحادي والعشرين من مارس، نتيجة سقوط أشعة الشمس بزاوية معينة، تكشف الخط الفاصل بين مثلثي الواجهة.
وترتبط هذه الظاهرة لدى المصريين القدماء بأسطورة الشمس والحياة، إذ كانوا يؤمنون بأن الشروق يمنح الكائنات فرصة جديدة للحياة بعد موتها مع الغروب، وهو ما جعل من شم النسيم عيدا للبعث والخلود. أما التسمية، فتعود إلى الكلمة الفرعونية “شمو”، التي كانت تُطلق على فصل الحصاد، وقد تطور اللفظ عبر العصور إلى “شم”، ثم أُضيفت إليه “النسيم” في العهد القبطي، إشارة إلى نسائم الربيع المعتدلة التي ترافق هذا اليوم.
ومن أبرز طقوس شم النسيم التي لم تتغير عبر الزمن، تناول الرنجة والفسيخ. فقد أصبحت الأسماك المملحة رمزا لهذا العيد، يحرص المصريون على تناولها خلال الاحتفالات. وتُحضَّر الرنجة من خلال التمليح والتدخين، وتُعد وجبة تقليدية في العديد من المناسبات، لكن شعبيتها تبلغ ذروتها في هذا اليوم.
ويؤكد حسين أبوالسيد، صاحب مصنع لتدخين وتمليح الرنجة، أن الإقبال على هذه الوجبة لم يعد مقتصرا على المواسم، بل أصبحت الرنجة حاضرة على موائد المصريين طوال العام. ويقول “الرنجة تُستهلك اليوم بشكل منتظم، وقد أصبحت جزءًا من العادات الغذائية، لاسيما بعد تطور طرق تصنيعها الصحية. لكن يبقى للربيع طعمه الخاص، حيث يزداد الإقبال عليها بشكل ملحوظ.”
وترجع تقاليد تناول الأسماك المُملحة إلى المصريين القدماء، الذين اعتبروها رمزا للخير والرزق، وكان تناولها في هذا التوقيت يعكس البهجة والخصوبة المصاحبة لموسم الحصاد. وقد اكتُشفت طريقة تمليحها عن طريق الصدفة، عندما كانوا يجمعون الأسماك من الشواطئ ويجدون طعمها مستساغا، فبدأوا في حفظها داخل أوان فخارية لتدوم لفترات طويلة.
ويقول إبراهيم شاهين، صاحب محل لبيع الفسيخ، “عيد شم النسيم هو يوم يتساوى فيه الليل والنهار، وكان المصريون يحتفلون به منذ الآلاف من السنين، وقد برعوا في حفظ الأسماك وتمليحها، كما ربطوها بقدسية نهر النيل، فارتبطت بالخير والخصوبة.”
وتتسم موائد المصريين في شم النسيم بجو من الألفة والاحتفال، حيث تجتمع العائلات حول أطباق الرنجة والفسيخ، مع إضافات لا غنى عنها مثل البصل الأخضر والليمون. وتقول السيدة سمر محمد، واحدة من الزبائن، “الرنجة والفسيخ لهما طعم مميز، لاسيما عندما تجتمع العائلة لتناولهما، سواء في العيد أو غيره، فهما تراث اجتماعي أيضا.”
أما المهندس أبوبكر الصديق، فيصف طقوس تناوله لهذه الوجبة قائلا “لا يكتمل شم النسيم دون الرنجة، ومعها البصل والليمون. صحيح أنها ثقيلة على المعدة، لذا نُكثر من شرب الماء والشاي. لكنها عادة محببة لا يمكن الاستغناء عنها، وزوجتي تُصر دائما على شرائها.”
ويُعد البصل من الأطعمة التقليدية المرتبطة بعيد شم النسيم، وقد عُرف منذ الأسرة السادسة، حيث ربطه المصريون القدماء بإرادة الحياة والتغلب على المرض والموت. وتروي الأساطير أن ابن أحد الفراعنة أُصيب بمرض غامض، فعجز الأطباء عن علاجه، فلجأ الملك إلى الكاهن الأكبر لمعبد “أون”، الذي نسب المرض إلى الأرواح الشريرة. أمر الكاهن بوضع ثمرة بصل ناضجة تحت رأس الأمير بعد تلاوة تعاويذ، كما علّق أعواد البصل الأخضر في القصر. وعند شروق الشمس، شق ثمرة البصل ووضع عصيرها في أنف الأمير، الذي بدأ شفاؤه التدريجي، ومنذ ذلك الحين اعتُبر البصل نباتا مقدسا.
أما الخس، فقد كان رمزا لاكتمال الربيع، وعُرف منذ الأسرة الرابعة، حيث ظهر في سلال القرابين بلونه الأخضر وأوراقه الطويلة، وكان يُسمى بالهيروغليفية “عب”. كما اعتُبر الحمص الأخضر، المعروف اليوم بـ”الملانة”، من أولى ثمار الربيع، واتخذ نضوجه دلالة على حلول هذا الفصل.
ويبقى شم النسيم عيدا يحمل عبق التاريخ، ونكهة العادات، وروح الفرح، حيث تتلاقى فيه طقوس الفراعنة مع بهجة الحاضر، في مشهد تتناقله الأجيال جيلا بعد جيل.