المشردون.. الوجه البائس لبرلين

برلين - يجذب كلاوس سيلفندر صورة لملعب كان يمثل بيتا له لعدة سنوات، وينظر عن كثب إلى الصورة… 15 شخصا يحيطون به في ضاحية ميته الراقية ببرلين، في الوقت الذي يحكي فيه هذا المرشد السياحي للرحلة عن ماضيه.
وعاش سيلفندر في شوارع العاصمة الألمانية خلال الأعوام من 2002 إلى 2009، وهو يناضل للتخلص من إدمان المشروبات الكحولية.
واليوم أصبح واحدا من عدة أشخاص اعتادوا على حياة التشرد في الشوارع، وصاروا الآن مرشدين سياحيين في جولات بأنحاء العاصمة، حيث يعملون لصالح منظمة “كوريشتاين” غير الهادفة للربح، التي يمكن ترجمة معناها إلى “عبر المدينة”. ويرافق سيلفندر السياح في جولات يشرح خلالها مختلف فترات حياته التي عاشها مشرّدا في الشوارع.
وتتمثل فكرة هذه الجولات في التركيز على الحكاية الفردية للمرشد السياحي، في محاولة لبناء جسور وخلق حوار بين الناس.
ولد سيلفندر في فرانكفورت آن دير أودر، وهي مدينة صغيرة تقع على الحدود مع بولندا وكانت جزءا من ألمانيا الشرقية، وبعد سقوط جدار برلين اشتغل ضمن العمالة الزراعية الموسمية وحصل على إعانة بطالة. ثم عمل في شركة للتبغ خلال الفترة من 1998 إلى 2002، ولكنه تركها بسبب خلافات داخلية على حد قوله.
وعندما لم يجد مكانا يذهب إليه توجه سيلفندر إلى برلين، وخطط لأن يمضي الأيام القليلة الأولى بالقرب من مقر إرسالية خيرية بجوار محطة السكك الحديدية، عند محطة حديقة الحيوان الشهيرة في المدينة، وهي إرسالية تقدم إلى المحتاجين وجبات ساخة وملابس وأنواعا من الدعم. وانتهى الحال بسيلفندر إلى العيش في الشوارع لنحو سبعة أعوام.
ويصف للسياح كيف كان يعيش دون أن يكون لديه تأمين اجتماعي أو صحي أو حتى بطاقة هوية، ويقول “لم يعد لي وجود بالنسبة إلى الدولة”.

وشعر بسعادة عندما عثر على الملعب الموجود في وسط برلين، وكان ينام داخل كوخ خشبي صغير، ورحب به باعتباره مأوى يحميه من برد الليالي ويحفظه من لدغ الحشرات والفئران.
وعزل سيلفندر المكان بصناديق كرتونية مطوية، ويقول متذكرا الليالي شديدة البرودة والرياح -حيث كانت الحراراة تنخفض إلى 15 درجة مئوية تحت الصفر- “كان المكان يعد نوعا من الرفاهية بالنسبة إلى شخص بلا مأوى”.
وبعد أن مر بتجربة سيئة قرر عدم العودة إلى مأوى المشردين، وتتمثل هذه التجربة في أن شخصا مشردا كان يقيم بجواره ومدمنا على المخدرات، ولم يستطع العثور على عرق يمكنه من حقن نفسه بالمخدر، ويحكي ما حدث قائلا إن “الدماء المندفعة من شرايين هذا الرجل سالت على وجهي”.
وحكاية سيلفندر ليست غير معهودة، فقد تم تسجيل نحو 2000 شخص بلا مأوى ويعيشون في شوارع المدينة، وذلك خلال أول تعداد للمشردين يجرى في برلين خلال يناير 2020.
ومن المرجح أن يكون العدد الحقيقي للمشردين في العاصمة الألمانية أكبر من ذلك بكثير، على حد قول باربارا بريور المتحدثة باسم إرسالية مدينة برلين.
وتقدم وزارة العمل تقديرات لأعداد المشردين على مستوى الدولة بأكملها، حيث أعلنت أن عدد الأشخاص بلا مأوى في ألمانيا عام 2018 بلغ 678 ألفا.
والمحطة الثانية في هذه الجولة السياحية كانت أمام صندوق قمامة برتقالي اللون، ويقول سيلفندر إن “الحياة في الشوارع هي معركة من أجل البقاء”، ويعني بذلك جمع القوارير الفارغة.
ويهدف مشروع إعادة القوارير الفارغة في ألمانيا إلى تشجيع إعادة التدوير، فيمكن للمشترين أن يعيدوا العبوات الزجاجية والبلاستيكية إلى المتاجر مقابل الحصول على 25 سنتا (0.29 دولارا).
ويضيف سيلفندر أنه كان يستطيع العيش بخمسة يورو في اليوم، ذلك إذا لم يكن معتادا على التدخين وتناول الكحوليات.
ويشير إلى أنه كان يضطر أحيانا إلى السير لمسافة 50 كيلومترا في اليوم لكي يعثر على قوارير فارغة، ويوضح قائلا “هناك الكثير من التنافس على جمع القوارير في برلين، والكثير من الناس يستولون على مناطق معينة لحسابهم ويدافعون عنها”.

وذات يوم تم نقله إلى المستشفى، بعد أن ضربه شخص على رأسه بزجاجة. ومع أن أيام نومه في الشوارع انتهت فإن بعض العادات التي تكونت لديه مازالت ملتصقة به، إذ لا يزال سيلفندر يفتش في كل متر بساحات انتظار السيارات عن قوارير فارغة.
ونجح سيلفندر في مغادرة الشوارع في شتاء 2009 عندما اصطحبه صديق قديم إلى شقته، وأخبره بأن أمامه أربعة أشهر لكي يجهز أوراقه ويحصل على مبلغ من المال ومكان ليعيش فيه.
وبهذه المساعدة والدعم من “أسرته الجديدة” استطاع سيلفندر أن يكمل التحول في حياته، وامتنع عن التدخين وتناول الكحوليات منذ تسعسنوات.
وتعلق ماري -وهي إحدى المشاركات في الجولة بالمدينة بعد انتهاء الرحلة- قائلة “إنني أشعر بأن هذا عالم مواز قائم في برلين أنت تعلمه، ولكن ليس لك أي اتصال به”.
بينما يقول سيلفندر إن “كل جولة أقوم بها هي بمثابة متابعة لرحلة علاجي، فهي تذكرني بالحالة المزرية التي كنت أعيشها، وبأنني لا أريد أن أعود إليها مرة أخرى”.