المسرح العربي يواجه الخراب والعدم وينتشل الإنسان من الحياة الباردة

عكست الدورة 11 من مهرجان المسرح العربي بالقاهرة صورة حقيقية لشعارها “نحو مسرح عربي جديد ومتجدد”، وجاءت أغلبية عروضها ثورية متمردة، على مستوى الطرح الذهني والفكري، والصياغات الفنية والجمالية. ومن هذه العروض المتفوقة التي لقيت استجابة طيّبة من الحضور على مسرح السلام بالقاهرة مساء 13 يناير، مسرحية “تقاسيم على الحياة” للكاتب والمخرج العراقي جواد الأسدي.
القاهرة - قد يتعفّن الإنسان إذا ظل طويلا داخل الأسوار، ولا علاج لحالته تلك سوى الحرية.. هكذا يرى العرض العراقي “تقاسيم على الحياة” الذي شهدته القاهرة مساء الأحد، ضمن فعاليات “مهرجان المسرح العربي”، وفيه استطاع المسرحي المخضرم جواد الأسدي معالجة قصة أنطون تشيخوف الكلاسيكية قصة “العنبر الرقم 6” ليطرح قضايا واقعية محلية.
نَصَبَ المسرحي العراقي البارز جواد الأسدي (72 عاما) شركًا لجمهور مسرحيته، وكسّر الحاجز الوهمي بين الجنون والعقل، وبين الممثلين والمتفرجين، فاختلط في النهاية الأمر على الجميع: مَن العقلاء ومَن المجانين في هذا المكان؟ ومَنْ يضحك على مَن؟
استغنت سينوغرافيا العرض عن كل البصريات والزوائد التي يمكن أن تنحرف بالمشهد القاسي عن واقعه المجرد، فالديكور ببساطة هو اللاديكور، والممثلون دائمًا بملابس الشتاء المُعتّمة أو برداء العُري الفطري، فقد تحول المسرح فعليّا إلى “عنبر” له جدران صمّاء صخرية ومعدنية معا، بحيث يستحيل اختراقها، وبداخل هذا المكان الموحش تعيش مجموعة من المجانين، سجناء في جنونهم، طلقاء في أحلامهم وخيالاتهم، يتحركون قليلا، لكنهم يتحدثون ويفكّرون وينفعلون ويغضبون كثيرا، ويزورهم الطبيب العاقل بين حين وآخر.
خارج الأسوار
على الرغم من أن أحداث المسرحية كلها تدور داخل العنبر، فإن الرهان الأساسي للعرض انعقد على الحياة خارج الأسوار، بوصفها المستحيل الذي قد يصير ممكنا ذات يوم، إذا تبدّلت الأحوال، وتغيّرت الظروف، واستجاب القدر لإرادة البشر.
قدّم العمل المسرحي مأساة الإنسان في الواقع العراقي المدمّر بفعل الحروب والمعارك العسكرية والنزاعات الطائفية والسياسية والأزمة الاقتصادية، في صورة مزيج مسبوك بعناية، بين التأمّلات الفلسفية والحوارات الذهنية الجدلية المتعمقة، والعلاقات الاجتماعية البسيطة والمباشرة، والتعبيرات الجسدية العنيفة خصوصا عن الانفعالات الشديدة والغضب.
المسرح العربي، ممثلا في عرض "تقاسيم على الحياة"، يقترح إمكانية مواجهة الخراب والعدم باسترداد الوعي والحرية
علاوة على كوميديا المواقف والمفارقات، كتبادل الأدوار بين الأطباء العقلاء والمجانين، وصوت المشاعر الدفينة الحساسة المنطلق في الخلفية من آلة “الكمان” الواهية، تلك التي لم تفارق يد أحد المجانين في كل المواقف.
مثلما يقول عنوان المسرحية هناك خلطة سحرية على مدار تسعين دقيقة هي مدة العرض، حصيلتها تقاسيم متتالية، شجية شهية، تتصاعد منها رائحة الحياة، الحياة الحقيقية التي ينبغي أن تكون خارج الحواجز، كأنها أرغفة الخبز التي ظهر المجانين وهم يتناولونها على مائدة طعامهم في العنبر عساها أن تقوّي شوكتهم، أو ذلك الحساء الساخن الذي شربوه دون أن يتفهموا مذاقه بسبب تبلّد حواسّهم بعد سنوات من النفي الإجباري، أو النفي الاختياري في بعض الأحوال، إذ أقرّ أحد المساجين بأنه دخل العنبر بمحض إرادته، بحثا عن الطعام والنوم والأمن وغيرها من ضرورات العيش الغائبة في الخارج.
ماذا أراد العرض العراقي بطرح هذه المأساة؟ لم تنطلق معالجة الأسدي المصوغة بلغة عربية فصيحة جرت بعذوبة على ألسنة الممثلين، من تصورات عدمية مطلقة، كتلك التي هيمنت على الثقافة الروسية وأفكار الأدباء والنخبة، ومنهم تشيخوف (1860-1904) صاحب رواية “العنبر الرقم 6” في العقد الأخير من القرن 19، فلربما تشابهت ظروف روسيا المحطّمة في ذلك الوقت بسبب الانهيار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وفقدان الأمل في إمكانية التغيير، وظروف الواقع العراقي حاليا، لكن منطلق العرض بدا مختلفا بعض الشيء عن رؤية العمل الأصلي.
في ما يخص مأساة المجانين، وطبيعة حياتهم وتفاصيلها في العنبر، والسؤال المحوري: مَن العاقل وَمَن المجنون في هذا العالم؟ جاءت الأحداث متشابهة إلى حد ما في العملين، لكن أبرز ما في نص تشيخوف أن النهاية الوحيدة الممكنة لهذه الصراعات هي الموت كختام للضياع الأبدي، وهذا الموت قائم: سواء بالمكوث في المكان المُظلم، أو محاولة اجتيازه إلى الخارج الأكثر سوادا.
أما في مسرحية الأسدي، فمن الركائز الأساسية اقتراح نوافذ نور، ولو صغيرة، في الحوائط الصمّاء، ليس فقط من خلال الطاقات الضيقة المسلطة عليها كشافات الإضاءة في المسرح/ العنبر، وإنما في المقام الأول من خلال انتفاضات المجانين المتتالية في أحداث العرض، وسعيهم الحثيث إلى التمرّد على محبسهم الضيّق وحياتهم المنقوصة، التي تبدو مرادفة للفناء، إذا ظلت كما هي، دون تغيير.
استرداد الوعي
يقترح المسرح العربي، ممثلا في عرض “تقاسيم على الحياة”، إمكانية مواجهة الخراب والعدم، وإمكانية الانتشال من الحياة الباردة المتجمدة، “التي يتكور فيها الإنسان في سريره كالكعكة”، ولا مجال لهذا النهوض سوى باسترداد الوعي وامتلاك الحرية كاملة.
انخرط العرض العراقي في تصوير أزمات المجتمع المُطبقة المتشابكة، غير القابلة للتفكك وفق إجراءات متاحة حاليا “صارت حياتنا خرابا.. افتحوا ثقبا واحدا في الأرض لنفرّ منه”، لكن تفكك هذه الأزمات غير معقود بالضرورة على تفكك الإنسان نفسه وتلاشيه كما يرى العدميون، فلربما يجد لغز الحياة منزوعة الأمل حلًّا لدى الحلم أو الخيال أو إرادة الوعي والتحرّر.
كل مجنون في العرض له عقدته الخاصة، التي تتكشف منها ملامح غيبوبته، وسمات الضياع الجمعي في الخارج، حيث العقلاء الذين يتصارعون على كل شيء، حد الجنون المفرط، ففقدت الحياة اتزانها ووجودها.
العرض كان واقعيا تفاعليا وفتح الباب واسعا أمام احتمالات مشاركة المسرح العربي في صياغة الحدث، وليس فقط رصده
في العنبر، التقى المعذبون في الأرض بسبب تمسكهم بإنسانيتهم، فالشاب “إيفانوف” هو رسول الحكمة والفلسفة، والباحث الأبدي عن الحق والخير والعدل والحرية. والممثل العظيم معشوق الجماهير “ميخائيلوف” انتابته لوثة بعدما بات منبوذا وصار الفن ممتهمنا ومجرّما في بلاده، ووهنت أعصابه أكثر عقب اغتيال حصانه “الجامح” الذي شاركه في أعماله وانطلاقاته.
أما الطبيب المعالج “أندريه”، فإنه انضم تدريجيّا إلى فريق المجانين من فرط تعامله معهم وانغماسه في مشكلاتهم وأفكارهم، فلم يبقَ عاقل في المكان سوى الحُرّاس، فهل هم حرّاس للمجانين من العقلاء، أم للعقلاء من المجانين؟ وما الفرق بين الفريقين: “كلنا مرضى يا سادة”؟
جاءت الكلمة في مقدمّة أبجديات الإبهار في العرض، فالحوار رصين ثري، عميق في رؤيته وفلسفته، لا تقف اللغة الفصيحة فيه عائقا أمام الأداء الرشيق للممثلين، وقد أتاح العرض فرصة لما يمكن تسميته “صولوهات” الأداء الفردي، عبر وصلات قصيرة قدّم فيها كل فنان “مجنون” ومضة من الحكمة أو كبسولة حروف مزهرة: “تحتفظون بنا خلف الأسوار لنتعفن”؟، “سألقي لكم باستقالتي، ليس فقط من الطب والعنبر، لكن من هذا العالم”.
حققت الحركة، على ندرتها، الغرض منها، فهي وثبات وهبّات وانتفاضات، ينجم عنها ضجيج وضوضاء وجلبة، وخبط بالجرادل والآنية على الحوائط والموائد، وأسهمت هذه الإشارات والرموز والأصوات في نقل حالة التحدّي والغضب والتمرّد والهياج لدى المجانين إلى الجمهور، فتعاطف العقلاء من المتفرجين معهم في ثورتهم وجنونهم.
كان العرض واقعيا تفاعليا بامتياز، وفتح الباب واسعا أمام احتمالات مشاركة المسرح العربي في صياغة الحدث، وليس فقط رصده والتعليق عليه.