المساعدات المقدمة لمصر نموذج لما تريده الصين من العالم

دبلوماسية العلاقات العامة التي تمارسها الصين مع القاهرة تكشف رغبة بكين في تمهيد دولي للتعامل معها كقوة عظمى وحيدة قادرة على العطاء الإنساني.
الاثنين 2020/04/20
مساعدات بحسابات سياسية

تطرح التحرّكات الدبلوماسية الصينية في مختلف دول العالم، استفسارات عدّة عن شكل موازين القوى في مرحلة ما بعد أزمة كورونا. ومثّلت المساعدات الصينية المقدّمة لمصر مؤخرا فرصة هامة للوقوف على التغيّر الكبير في مستوى العلاقات العامة للقاهرة. كما سلّطت الضوء على نموذج مصغّر لما تريد أن تصل إليه بكين في علاقتها بالقاهرة التي ترى فيها حليفا مهمّا لتثبيت مشروع طريق الحرير ومثالا جادّا عمّا يريده الصينيون مستقبلا من العالم.

القاهرة- تلقت مصر مساعدات طبية من الصين قبل أيام، ثمّنتها القاهرة كثيرا ومنحتها تركيزا لافتا، واعتبرتها عربونا مستحدثا لتطوير العلاقات بين الدولتين.

وصنّفت وسائل إعلام محلية مصرية الضوء على هذه المساعدات كبداية لمرحلة جديدة، كونها أوحت إلى أنها اعتراف بالدور المصري المساند للصين عندما تصاعدت حدّة الأزمة في ووهان التي قيل إن فايروس كورونا خرج منها، وردّا على الصدى الإيجابي الذي أحدثته زيارة وزيرة الصحة المصرية، هالة زايد، لبكين في بداية الأزمة.

وكشفت عبارات الغزل التي ترددت في القاهرة عن أن القاهرة أمام تفعيل من نوع جديد لدبلوماسية العلاقات العامة، ينطلق من المجاملات المتبادلة، حيث جرى تصوير الأمر للمواطنين على أنّ بكين خصّت مصر بمساعدات مهمة وعازمة على التعاون معها في مجال اللقاحات، وتم تسويق القضية على أن “من قدّم السبت وجد الأحد أمامه”، وهو مثل شعبي يتردّد عندما يقدّم شخص صنيعا إيجابيا لآخر عندما يواجه أزمة فيقوم بردّها إليه بوسائل مختلفة عند الحاجة.

تشابك القوى الدولية

مجاملات متبادلة
مجاملات متبادلة

يمكن أن يشهد هذا الاتجاه في مجال العلاقات العامة تمدّدا مع تزايد أنواع المحن، وارتفاع مستوى تشابكات القوى المنخرطة في النظام الدولي، فالبعض يحتاج إلى تحسين الصورة قبل أن يتمادى الخصوم في تغييرها للأسوأ.

وآخرون يرون أن هناك حاجة ماسّة لتغيير الأنماط التقليدية، وهو ما جعل مكاتب العلاقات العامة في العالم تنشط وتتنامى أدوارها السياسية، وتلجأ إليها دول وشخصيات كبيرة، ولم تعُد قاصرة على مواسم الانتخابات، بل تنتعش مع توالي الأزمات، وبما أن العالم دخل في اختبار قاس لا أحد يعلم تداعياته بالضبط، فمن المتوقّع رواج هذه المكتب رسميا.

وعزّزت كارثة كورونا الصحية من دور العلاقات العامة في القاموس الدولي، ويكاد تحولها إلى دبلوماسية مستقلة تضاف إلى أشكال عديدة دخلته في الآونة الأخيرة.

وعرفت الصين هذا المجال منذ سنوات وسعت إلى ترسيخه لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية معيّنة، نجحت وأخفقت، لكنها طوّرت من أدواتها مع الجائحة الجديدة، خاصة بعد أن أشارت أصابع اتهام أميركية إلى تحميلها مسؤولية انتشار الوباء وعدم وضوحها في نقل المعلومات.

وسارعت الصين بإرسال شحنات كبيرة من المعدّات الطبية اللازمة في التعامل مع كورونا وخلقت صورة ذهنية إيجابية مبكرا، ففي ظل هول المفاجأة التي فجّرها المرض ونقص الإمكانيات في دول عديدة وخبرة بكين في الوقاية منه، كانت مساعداتها السخية سلاحا سياسيا.

بكين تعتقد أن جذب القاهرة إليها يمثل مكسبا، ما يفسر اهتمام سفارتها بمخاطبة المصريين بالعربية

ولقي هذا السلاح استحسانا من الدول التي وصل إليها، وبدا وجه الصين ناصعا وصاعدا كقوة عظمى أولى، بما جعل الاتهامات التي ردّدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب والتلميحات التي أومأ بها غيره تبدو مصحوبة بانتقام وتصفية حسابات خاصة وسياسية واقتصادية، لأن بكين نجحت في استرضاء دول عدة من خلال دبلوماسية العلاقات العامة.

وركزت هذه الدبلوماسية على النمط الصحي لتحسين صورة الصين وتبييض وجهها في مواجهة طوفان متعدد من الانتقادات، وجابت معوناتها العالم شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، بما فيه الولايات المتحدة نفسها التي تلقت مساعدات كبيرة ثمّنتها دوائر سياسية وطبية أميركية، ما أوقع ترامب في تناقض فاضح، وبدا كمن يريد وضع إخفاقاته على عاتق بكين.

يحمل تضخيم دور العلاقات العامة كأداة من أدوات تنفيذ السياسة الخارجية للصين الكثير من الأهداف، ربما تختلف من دولة إلى أخرى، غير أن هناك ما يشبه الاتفاق حول جملة من الخطوط العريضة، أبرزها أن بكين تحتاج إلى تمهيد دولي للتعامل معها كقوة عظمى وحيدة قادرة على العطاء الإنساني.

وتسعى هذه المعادلة إلى قلب التوازنات التي اعتمدت عليها الولايات المتحدة وحصرت دورها في شكل القوة العسكرية المهيمنة، وهي صورة لا تريد بكين الانجرار خلفها أو تكرارها، لأن دخول الاتحاد السوفييتي هذا السباق خلال الحرب الباردة أدّى إلى تفككه.

تجربة للقياس

المساعدات الطبية اعتبرتها مصر عربونا مستحدثا لتطوير علاقاتها مع الصين
المساعدات الطبية اعتبرتها مصر عربونا مستحدثا لتطوير علاقاتها مع الصين

قرأت بعض الدوائر السياسية دبلوماسية العلاقات العامة التي مارستها بكين مع القاهرة عبر المعدّات الطبية على أنها تمثل نموذجا يمكن القياس عليه في مسألة الفوائد التي تريد الحصول عليها، لأن الخدمات التي تقدم بين الدول قد تحمل في وقت معيّن عوائد ومردودات سياسية.

وترى بكين في مصر حليفا محتملا قويا، بحكم موقعها الجغرافي في مشروع طريق الحرير العملاق الذي تعوّل عليه الصين في خدمة أهدافها الحيوية في العالم، ومن واقع دورها العربي والأفريقي، ورمانة ميزان على الناحيتين، والأهم أن القاهرة لم تحسم خياراتها الاستراتيجية النهائية مع الولايات المتحدة أو روسيا، فهي تتمتع بعلاقات جيدة مع كل من واشنطن وموسكو، لكن ممارساتها توحي بأنها لا تريد الانحياز لأي منهما.

في المقابل، ترغب مصر في الانفتاح على الجميع، أو بمعنى أدق تفضّل في هذه المرحلة القلقة الانفتاح على كل القوى الحية، لأن السيولة التي يتسم بها العالم سوف تستقرّ طال الأمد أم قصر، وتظهر قوة عظمى فاعلة في النظام الدولي يمكن الرهان عليها، ولذلك ترى بكين في نفسها هذه القوة، ما يفرض تهيئة الأجواء لاستقطاب القاهرة عندما تحين لحظة المفاضلة.

وتولي الصين لمصر اهتماما خاصا، وتبادلها الأخيرة ذلك وترتاح إليها كثيرا، لأن الروابط معها غير محكومة بقيود شديد تكبّل حركتها في بعض القضايا الإقليمية، مثل الولايات المتحدة التي تضع فيتو على طريقة التعامل مع إسرائيل والقضية الفلسطينية وسوريا، وثمة سلسلة طويلة من الملفات يمكن إدراجها ضمن هذه المنظومة المرهونة بتقديرات أميركية.

تحاول بكين استثمار المراوحة الظاهرة في العلاقات بين القاهرة وموسكو، وتردد مصر في تطوير العلاقات مع روسيا، نعم العلاقات جيدة بين الطرفين لكنها لا تزال مقيّدة ومن الصعوبة أن يتحوّل التحالف الاستراتيجي النظري مع موسكو إلى عملي وسط مجموعة من الكوابح التي يمكن أن تمثّل إزعاجا للقاهرة في المحيطين الإقليمي والدولي، منها عدم سياسة الغموض البناء التي يتبعها الرئيس فلاديمير بوتين، والتي تثير الهواجس أحيانا.

سارعت الصين بإرسال شحنات كبيرة من المعدّات الطبية اللازمة في التعامل مع كورونا وخلقت صورة ذهنية إيجابية مبكرا، ففي ظل هول المفاجأة التي فجّرها المرض ونقص الإمكانيات في دول عديدة

وتعتقد الصين أن جذب مصر إليها يمثّل مكسبا مهماّ، وأن الفرصة مهيّأة بالفعل، الأمر الذي يفسر أحد أسرار الاهتمام المبالغ فيه من قبل سفارتها في القاهرة التي اعتادت مخاطبة الرأي العام في مصر بالعربية في كثير من المناسبات، ناهيك عن توسيع نطاق الحوارات والمناقشات مع النخبة، وقد ظهر السفير الصيني بنفسه في عدد من القنوات الفضائية المصرية مؤخرا وهو يتحدث عن المساعدات الكبيرة التي قدّمتها بلاده للعالم.

ما توقّف عنده المراقبون في هذا الحديث، طول مدته فقد ناهز 60 دقيقة، وتكرار بثه على عدد من الشاشات، وكلامه المباشر دون وجود محاور أو محاورة تناقشه، كأنه يلقي بيانا سياسيا، أما من حيث المضمون فالرجل تحدث عن الصين باعتبارها “بابا نويل” العالم التي توزّع الهدايا والعطايا دون أن تنتظر مقابلا، ولم يقتصر كلامه عن مصر، حيث امتد إلى توصيف دقيق لطبيعة تصوّرات الصين التي ترمي إلى إنقاذ العالم.

يصلح هذا الخطاب كنموذج حيّ لدبلوماسية العلاقات العامة التي تتبنّاها الصين، لأنه ببساطة أراد شرح المكوّنات العميقة في هذه الدولة، والتي لا تهدف إلى الربح المادي أو التأثير على قرارات الدول أو السيطرة على الثروات، والتعامل معها وفقا لمسطرة متساوية، في إشارة إلى معيار العدالة والكرامة في التوجّهات الصينية، وهي واحدة من الطرق التي تدغدغ مشاعر الناس، والتي تعتمد عليها شركات العلاقات العامة عندما تريد الترويج لمنتج معيّن.

6