المساجد المغربية تروي فنون العمارة وعراقة التاريخ

تُظهر التصميمات والتفاصيل الدقيقة في المساجد المغربية فنون العمارة الإسلامية التي تمتد عبر العصور، وتروي تطور أسلوب البناء من خلال الزخارف المتقنة من الخشب والجبس، والنقوش الهندسية المستوحاة من الطبيعة، بالإضافة إلى الكتابات القرآنية التي تزين الجدران والقباب.
الرباط - في شموخ وإباء تنتصب المساجد المغربية لتحكي عن الغنى الفني للهوية المعمارية الإسلامية المغربية، بفضل ما تزخر به من تصاميم مميزة، وزخارف عريقة وفسيفساء متفردة، تمتح من معين الروافد العربية والأمازيغية والأندلسية والمتوسطية.
هذه الفخامة وذلك التفرد الذي يميز المساجد المغربية، في تناغم بين النقوش الدقيقة والهدوء الروحي، هما نتاج قرون من التأثر والتأثير الحضاري والثقافي الذي ميز تاريخ المغرب مع محيطه، مما يجعل هذه المعالم الدينية الغنية بعبق التراث، تستعصي على التقليد أو الصنع إلا بأنامل الحرفي المغربي التي تنطق إبداعا وتشع جمالا.
هو ذات التفرد الذي يدل على الخصوصية الجمالية والفنية الناطقة بلسان مغربي أصيل، حينما يعكس الأجواء الروحانية الآسرة المفعمة بتاريخ عريق، مما يجعل عين الزائر لا تخطئ أبدا هوية المسجد المغربي، سواء القديم منه أو الحديث.
ظاهرة التأثير والتأثر في تفسير أي تطور تاريخي للفن عامة والفن المعماري خاصة، يعتبرها المؤرخ أحمد أشعبان مسألة واردة، مشيرا إلى أن عوامل التأثير كثيرة، ومنها الداخلي والخارجي، وهي التي تتشكل من خلالها هوية بلد ما، مبرزا أن ما يميز العمارة في المغرب الأقصى بشكل خاص هو تنوع هندستها وغنى زخرفتها، مما يضفي عليها جمالية تعكس أصل مؤسسها والمدينة التي بنيت فيها.
وفي تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، يعتبر المؤرخ أشعبان أن المفهوم المعماري للجامع والمسجد يختلف بين الماضي والحاضر، موضحا أن “الجامع” أو “الجامع الأعظم” أو “الجامع الكبير” كان يُعد في الماضي العمارة الدينية الوحيدة في المدينة الإسلامية، إلا في حال وجود عائق طبيعي يفرض وجود “جامعين”.
وأضاف أن ما ميز “الجامع” عن المسجد هو أن الأول كان مخصصا لصلاة الجمعة بالإضافة إلى الصلوات الخمس، في حين كان المسجد مخصصا فقط للصلوات الخمس ولا يحتوي على المنبر.
وأوضح الأستاذ المختص في العمارة الإسلامية أن جميع “الجوامع” الإسلامية تتوفر على خمسة عناصر معمارية أساسية، وهي المحراب المخصص لإمامة الصلاة، والمنبر لخطب الجمعة والعيدين وغيرها، وقاعة الصلاة، والمئذنة لرفع الأذان والنداء إلى الصلاة، والصحن الذي يضطلع بدور تهوية قاعة الصلاة وإضاءتها.
وأكد أن “جوامع” الغرب الإسلامي والمغرب الأقصى بشكل خاص كانت تختلف عن نظيراتها في الشرق الإسلامي، لافتا إلى أن في القرن السادس هـ/ 12م، ومع ظهور الإمبراطورية الموحدية وعاصمتها مراكش، شهدت عمارة “الجوامع” ثورة فنية وثقافية ميزت عناصرها عن باقي الجوامع الإسلامية.
وأضاف الباحث أن تلك الفترة شهدت تأكيد الشكل الهندسي المربع للمآذن المعروف في جميع مناطق الغرب الإسلامي، مع إضافة تقنية وهندسة بناء جديدة تقوم على استغلال الجسم أو البرج الأوسط في المئذنة ووضع غرف مركبة واحدة فوق الأخرى من القاعدة حتى منصة الأذان العلوية.
ولم تكن التطورات المتعلقة بالتصاميم والهندسة التي عرفتها المساجد المغربية عبر الزمن معزولة عن التراكم الذي تحقق في الجانب المتعلق بالزخرفة والنقش على الخشب و”الزليج”، والتي عكست الازدهار الثقافي والاقتصادي الذي طبع العديد من الحقب التاريخية في المغرب.
وفي هذا الصدد، يقول أشعبان إن الزخرفة الإسلامية في المغرب مرت بمراحل تاريخية ارتبطت بمستوى الازدهار الاقتصادي، مشيرا إلى أن الإمارات الحاكمة في المغرب قبل الدولة المرابطية اهتمت بالبناء أكثر من الزخرفة.
وفي العصر الموحدي، يضيف الباحث، أبدع الصانع المغربي في الزخارف الجصية والنقش على الحجر، مبرزا أن جامع تينمل وجامع الكتبية هما خير شاهد على أهمية الزخارف في إبراز جمالية العمارة الدينية.
من جهة أخرى، قال أشعبان “يمكن اعتبار الدولة المرينية والدول التي تعاقبت بعدها من أهم عصور زخرفة البناء بامتياز”، مشيرا إلى الواجهات الداخلية للمدارس المرينية التي تعد لوحة مليئة بمختلف أنواع الزخارف إلى حد غياب الفراغات بها.
ولعل خير شاهد على هذا الإبداع وتلك الأصالة المغربية هو مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، الذي يعد أول معمار ديني يُبنى على البحر، “وكان عرشه على الماء”، والذي يُعتبر بحق جوهرة معمارية وحضارية وفنية عز نظيرها، إذ اجتمع فيها ما تفرق في غيرها من تلاوين الفنون وأنواع الزخارف وضروب النقوش المغربية العريقة.
وتظل المساجد المغربية، منذ العصور الإسلامية الأولى إلى اليوم، شاهدة على تطور الفن المعماري الذي يجمع بين الأصالة والابتكار، والتي أبدعت يد الصانع المغربي في تجسيدها وفق هوية فريدة. لتظل هذه المساجد، بالإضافة إلى دورها الديني كأماكن للعبادة، تحفا معمارية خالدة تعكس روح الإبداع والتفرد في المشهد الثقافي والحضاري للمغرب.
